صالح عوض: على أبواب فصول جديدة.. من استعد نجا!

صالح عوض: على أبواب فصول جديدة.. من استعد نجا!

صالح عوض
كأي تحول كبير وانقلاب في الواقع، تتولد معه شروط جديدة ومعطيات مختلفة و تنسحب بحدوثه كيانات وتحل أخرى.. إنه التدافع، السنّة المرافقة والمتحكمة في المسيرة البشرية وهي لا تتخلف وليس لها حولا.. وكم يخسر من تشبث بماض انقضى سلطانه وذهبت ريحه.. قد يصلح ذلك للبكّائين على الأطلال والمتعيشين على الذكريات.. من يفعل ذلك فهو لا يظلم نفسه فقط إنما يصبح عدوا رغما عنه لطوفان التحولات العاتي الذي يغرق روايات ويطوح بأركان أبنية ما ظن أحد أنها ستسقط يوما..
توصيفات أولية:
7 أكتوبر.. بوابة الخروج من سجن العبث والتيه.. وهكذا نشعر أحيانا ان الحدث التاريخي يستدعي الشعر والبيان أكثر من استدعاء المنطق والفلسفة.. فلعلنا مثل سوانا لم نخرج بعد من هول 7 اكتوبر بشحناته العاطفية وكأننا لم نتمالك أنفسنا للتدبر وصناعة الأفكار الضرورية لمستقبل لم تتضح معالمه بعد.
لم يكن واقع ما قبل 7 أكتوبر ضغوطا وحصارا وتشويها لنضالنا وتيها في الفراغ فقط.. لقد كان واقع ما قبل 7 أكتوبر مفاهيم وقيما تسربت إلى أذهان البعض وعقائدهم.. فأصبحت العبودية ليست فقط في هيمنة واقع الجريمة على أمتنا إنما كذلك في عقول وقلوب كثيرين مهزومين
7 أكتوبر المجيد لم يتجاوز واقع السكون والتيه فقط بل تجاوز مفاهيم طبقة تصلبت عقولها وتيبست مفاهيمها واستسلمت للواقع المزري.. وأصبحت هذه الطبقة المهزومة لسان التخذيل والتثبيط والتشكيك والتخوين ..واذا حققت المقاومة صمودا واقتدارا تستاء نفسيتهم.. وان قتل احد القادة او لحق سوء بالمقاومة تشمتوا وفرحوا بها.
7 أكتوبر المجيد.. ليس فقط صدمة أصابت وجدان العدو ومنظومة أفكاره وليس فقط انقلاب على الرواية الصهيونية التي سادت لأكثر من قرن في الوعي العالمي.. انه مع ذلك كله زلزال في شبكة علاقاتنا الاجتماعية كشف لنا سلم الأولويات ودلنا على بداية الطريق نحو نهضة وحياة متحررة من العجز والأوهام والتيه..
7 أكتوبر المجيد ميلادنا الصعب ومخاضنا المستحيل دفعنا من اجله أعز ما لدينا من أهل وبيوت وحياة .. وقدمنا من اجله أكثر مما كان متخيلا.. ولكنه كذلك أظهر فينا نماذجنا إنسانية لم تتكرر عبر التاريخ البشري تمثلت في جيل قراني فريد يستقي من النبع الصافي وقد خلع عنه جلد الهزيمة وفهم الآيات بروحها فلم تنحرف به التأويلات والأفهام السقيمة..
7 اكتوبر يوم تأسيس في وعي الشعب الفلسطيني والأمة بل والإنسانية ويدخل قادته سجل الرموز التاريخيين الكبار ولن تستطيع التفريق بينهم وكبار صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. بل لعل لأحدهم من اجر الشهادة ما يفوق أربعين مرة شهداء كبار الصحابة كما جاء في الحديث الشريف.
7 اكتوبر استنهض كل الخير في الأشخاص والأمة والإنسانية وركل إلى واد سحيق كل المعادن الصدئة والنفوس الخائرة والأفهام السطحية والادعاء
ما الجديد عن سفينة المقاومة في خضم الطوفان.. وشروط النجاة من متلاطم الموج وحول التحديات المتجددة والمعطيات الجديدة ينبغي أن ينصب التفكير والتدبر لأن ساعات ما قبل رسو السفينة على الجودي تتداخل التحديات والعواطف والمشاعر والأفكار إلى الدرجة التي يهتز فيها اليقين.. وهنا تبرز أهمية وجود جيل من الرجال في فلسطين والأمة يحسن التعامل مع التحديات ويقود السفينة الى بر الأمان.. وهنا أجد من الضروري أن أطرح تجربتي الإنسانية كواحد من أبناء الأمة الذين تلهب أعصابهم مآسي أمته ومظلومية شعبه.
عندما يتداخل الخاص بالعام:
في العمق تحت هذا العنوان كانت مقالاتي في صحيفة الشروق الجزائرية بالإضافة لافتتاحيات متناوبة وكذلك تحليلات للأحداث..و كنت قبلها منذ ١٩٩١ اكتب تحت عنوان عيون على العالم عبارة عن ملفات للأحداث في الوطن العربي والعالم الإسلام… ثلاثون سنة تقريبا وأنا أسهم في التحليل والتفكير من على منبر أحببته وقدمته على كل شي.. كما كتبت في سواه من صحف عربية القدس العربي ورأي اليوم والحياة الفلسطينية والشروق التونسية وشاركت في حوارات إذاعية وتلفزيونية ومؤتمرات.
اعتقد ان الكتابة لم تكن في أول دربي في النضال إلا تعبيرا عن أفكار تدور في راسي أو محاولة للفهم واكتشاف الألغاز حيث أن الكتابة تستدعي القراءة وفهم الصراع يستدعي فهم الأخر المعادي وفهم قدراته وأساليبه.. و مع الزمن أصبحت أكثر من ذلك أصبحت محاولة لشرح علاقات الدول وفهم أعماق الصراع وخلفياته حتى قادتني إلى تتبع مصادر القرار الدولي.
اكتشفت حقائق صعبة ومؤلمة وتزداد صعوبة وإيلاما كلما أوغلت في الدراسة والفهم فأدركت أن قضية فلسطين أكثر تعقيدا مما كنت أتوقع، وأكبر كثيرا من أن تحتجز في إطار وطني أو إقليمي أو عربي أو إسلامي.. إنها قضية الإنسانية المعذبة.. إنها قضية صنعها من يتحكمون في العالم ويسيطرون عليه ويذيقون البشرية الويلات ويمارسون عليها أنماطا من الاستعباد.
وكاد اليأس يحيط بي وكان سؤالي الجواني الذي أرهقني كيف تكون بدايات الحل وهل يمكن يكون هناك حل يحرر فلسطين؟ تبدو الأسئلة مغرقة في الصعوبة الأمر الذي جعلني أشعر بأن كل ما تبذله الفصائل المناضلة والحركات الوطنية لن يحقق الاختراق للواقع.. فنحن إزاء القوة العالمية التي حطمت إمبراطوريات وتتحكم في المال والإعلام والسياسة وشبكات الاتصال.. ماذا يستطيع شعبنا الممزق في أكثر من مكان والمشتت وغير المنظم فعله في مواجهة مشروع محدد المخططات والبرامج وغير محدود الامكانات.. وذلك كله في ظل غيبوبة المثقف العربي وتوهان السياسي العربي وتخبط النظام العربي ومشاريع التنمية البهلوانية.
الحقيقة أنني شعرت بعدم جدوى كل ما تقوم به الحركات والاحزاب العربية والفلسطينية التي تبدأ بعنفوان واندفاع وتنتهي لفشل وإخفاق واختراقات قاتلة من قبل الأعداء سياسيا وامنيا..
بمقدار ما كانت تتكشف لي حقائق قوة الفاعلين في العالم كنت أتألم وأشعر إننا أمام سراب وعمل بلا نتائج وتضحيات مجانية.. صحيح لم أكن أصدر شيئا من إحساسي ومشاعري الحزينة خلال مقالاتي التي حافظت على أن تكون متفائلة لأنني اعرف ان التفاؤل قرار كما إنه إيمان بالعدل الإلهي وتصديق لما وعد الله.. حتى جاء ٧ اكتو بر .. وانا أقر إنني شعرت منذ الوهلة الأولى بأن العمل ليس عاديا وانه خارج الصندوق وانه يحتاج لجهد عقلي متحرر كي نستوعبه ونضعه في سياقه الطبيعي..
لقد كسر ٧ اكتوبر التقليدي من التفكير والأداء، وخرج من مناخات واتجاهات أريد لها ان تحكم المنطقة والعالم .. ولقد كان الطوفان زلزالا في كل شي وفي كل مكان.. ولقد كانت قوته المبالغ فيها و”الجنونية” هي من عوضه عن نقص متنوع رافقه..
كانت تداعياته الإقليمية والدولية عظيمة .. ولقد أحدث ما يشبه ثورة على مستوى التفكير وصناعة الأفكار التي طالت قطاعات واسعة من العالم لاسيما الغرب وأمريكا على وجه الخصوص.
كان سقوط السردية الصهيونية في الغرب وتصدع الروح الصهيونية انجازا كبيرا.. وتم في ظله تكشف اللاعبين الكبار.. كما ان اشتراك اليمن ولبنان وايران في الطوفان حتى لو لم يكن كما تمنينا.. وسوى ذلك كثير .. كل ذلك ما كان له ان يحدث بدون حدث كبير استثنائي غير تقليدي فكان ٧ أكتوبر هو بداية طريق مختلف أو هو السطر الأول في رواية جديدة
لانه كذلك كان ثمنه باهضا استثنائيا.. تضحيات فوق الخيال .. معاناة لا يتصورها احد.. وإجرام عنصري لم يكن في الخيال.. الأمر الذي زحزح كثيرين من مواقعهم وإربك آخرين فما عادوا قادرين ان يثبتوا على موقف.. يترنحون بين المواقف ونقيضها.. وانتقل البعض من موقع لآخر.. إنها الزلزلة العظيمة..
ما يمكن الخلوص اليه.. ان من صنع ٧ أكتوبر كان يملأه اليقين والوعي والإرادة والإعداد الروحي.. فإن مضي مايقارب سنتين على ٧ اكتوبر ولا زال زخم المقاومة عنيفا فيما لم يستطع الرفاق ان يواكبوا العملية الضخمة .. إلا أن ما بعد ٧ أكتوبر ليس ماقبله..
نحن بحاجة لتركيز وتصميم ووعي وإدارة أوضاعنا برحمة وإدارة صراعنا بذكاء ووعي وإدراك
ماذا بعد التضحيات الجسيمة والمقاومة الاستثنائية:
توقف العدوان قريبا جدا .. وماذا أيضا وهو الأهم؟؟؟
كل ما يدور الآن بين الجمل الموزعة والكلمات المتقطعة ان اتفاقية وقف إطلاق النار أصبحت قاب تصريحين لترمب أو أدنى..
نحن نعرف الظروف التي تحتشد الآن نحو خطوة إسرائيلية لذلك.. وكلها تفيد بأن اقدام الحكومة الإسرائيلية لخطوة وقف الحرب مشفوعة بما تدعيه إسرائيل من انتصارات على الجبهة اللبنانية والجبهة الإيرانية.. لكن لن تجد حكومة نتنياهو أحدا يصدق ادعاءها بانتصارها على المقاومة الفلسطينية.. فبعد عشرين شهر لازالت المقاومة حاضرة بقوة مع ازدياد الخبرة.
أكاد أجزم انه بمقدار الألم الصعب والتضحيات الجسام والوجع الثقيل إلا أن غزة أنتجت في سنتي العدوان عليها جيلا قرآنيا فريدا مجبولا بمعاني جددت فينا ذكريات التاريخ في صحابة الرسول الأوائل..
لا اعتقد ان هناك فلسطينيا يزور من الانتماء لهؤلاء الشباب أو ان يتبرم عن تقديم كلماته ودمائه معهم.. وهنا ضرورة ان يجدد كل واحد فينا بينه ونفسه أين تقف قدماه وهل ينطق بكلماته..
المعركة في فصلها العسكري انتهت.. ولكن حذار من الفصل السياسي حيث يتم التعامل في ملفاته بمؤامرة لتفريغه عن إنجازاته وروحه.
هناك شقان من الضرورة الانتباه لهما، الأول: الإدارة السياسية على أرضية المفاوضات والتفاهمات الإقليمية.. والصراع مع العدو
الثاني: إدارة أوضاع المجتمع الغزي بالرحمة والعدل .. بعيدا عن روح الحزبية والولاءات العصبية
وهذان المعطيان يتولدان مما يحصل الآن في غزة في الخيام وخرائب البيوت.
المعركة العسكرية انتهت، وهذا لا يعني ان لا قيمة لكل من يسقط شهيدا هذه الأيام.. لكن بمعنى أدق الجولة العسكرية الحالية. انتهت وهي إلا تشطب بواقيها.. لندخل معركة المكابدة السياسية والدارة الداخلية..
نحن وقفنا ضد الهجمة الصهيونية في اخطر جولاتها.. والآن يجب أن نتمثل مهمات من أنواع أخرى أكثر صعوبة تستدعي الحكائين الذين يسنوا الآن ألسنتهم الملتوية لكي يطعنوا في كل شيء حقدا من عند أنفسهم…ولا يهم إلا التركيز بالاهتمام بأهل غزة المنكوبة .. لان خروج غزة من المذبحة يعني بوضوح انها ستكرس كل المعاني الجديدة وتتخطى كل المعاني والمناخات السابقة.. تولانا الله برحمته