د. فاطمة الديبي: حديث عابر

د. فاطمة الديبي
وصلت فتيحة وبدأت تتنقل بين أزقة السوق الضيقة، المليئة بالناس حيث يسود الصخب والضوضاء، و تتداخل أصوات الباعة المتجولين مع صيحات الأطفال، وأصوات السيارات المارة.
تنتشر البسْطات الملونة هنا وهناك، تُعرض عليها مختلف أنواع الخضار والفواكه، كل بائع يزين بسْطته بطريقته الخاصة، مستخدماً الألوان الزاهية لجذب الزبائن من الأغنياء إلى الفقراء، ومن الشباب إلى كبار السن. يتبادل الباعة والزبائن أطراف الحديث، ويضحكون ويتسامرون، مما يخلق جوّاً من الألفة والود.
فجأة تلتفت فتيحة لتجد خياطتها القديمة (سعاد) واقفة خلف أحد البسْطات تبيع الأقمشة، لم تصدق فتيحة عينيها فبدأت بالصراخ من الفرحة، تتبعه لحظة من الصمت حيث تتبادلان النظر، ثم تنفجر الاثنتان ضاحكتين، لتدخلا في حديث سريع عن أحوال كل منهما، ذكريات عن الأيام الخوالي، وأسئلة عن العائلة والأصدقاء.
_ كيف حالك؟
_ بخير والحمد لله، وماذا عنكِ؟ أين اختفيتِ كل هذه الفترة؟
_ (تنهدت سعاد عميقاً) : الحياة يا سيدتي أصبحت صعبة، كما تعلمين، أغلقت محلي بعد الجائحة، لم يعد هناك عمل، والظروف الاقتصادية صعبة.
_ وماذا فعلتِ؟
_ (بصوت حزين) أبيع بعض الأقمشة هنا في السوق، وأبيع ملابس نسائية بالبيت للجارات والصديقات… يعني أحاول أن أكسب قوت يومي، لكن الحياة كما تعلمين ليست سهلة، إضافة إلى المنافسة الشديدة، الكل يبيع وخاصة الملابس الجاهزة بأثمنة بخسة، من أين لي أن أنافسهم وأنا أبيع قطعا قليلة وغيري يبيع بالجملة ؟
_ وماذا عن أولادك؟ كيف تستطيعين تأمين مصاريف المنزل مع كل هذا الغلاء؟
_ الأولاد هم همي الأكبر، الإيجار مرتفع، والأسعار في ارتفاع مستمر، أشعر بالخوف على مستقبلهم….
(تتنهد) أتذكر عندما كنت أخيط أجمل الملابس ومحلي كان دائما مكتظا بكثرة الزبائن، الآن أصبحت الملابس الجاهزة المصنوعة في المصانع الكبرى تغزو الأسواق… لقد تغير كل شيء، لم يعد هناك تقدير للحرف اليدوية.
لا أريد أن أشكو، ولكن الأمر مؤلم أن ترى حرفة عمرك تموت بهذه الطريقة، لقد تغيرت الأزياء، وتغيرت أذواق الناس.. الجميع يبحث عن السريع والرخيص، ولا أحد يهتم بالجودة أو القصة وراء القطعة.
_ يا له من حزن! أتذكر الأيام التي كنت أزور فيها ورشة عملكِ، وأنتِ تصممين لي أجمل الفساتين، كانت تلك أياماً سعيدة.. لم أعد أجد من يفهم ذوقي ويخيط لي الملابس التي أريدها، كل شيء تغير.. أتمنى لكِ كل التوفيق في حياتكِ الجديدة، ربما سنجد طريقة للقاء مرة أخرى.
أمسكت فتيحة بيد سعاد، وشدت عليها بقوة، نظرت في عينيها، فرأت فيهما حزنا وألما.. همست لها: “سأظل دائماً أذكر كل الثياب الجميلة التي صنعتها لي، وستبقين في قلبي دائماً”. ابتسمت سعاد وقالت: “شكراً لكِ، فقد كنت من زبائني الأوفياء”.
غادرت فتيحة المكان وهي تحمل في قلبها الكثير من الأسئلة : ترى كيف سيكون مصير سعاد وأمثالها من أصحاب الحرف التقليدية ؟ وهل ستتمكن من العودة إلى حياتها الطبيعية كما كانت سالفا ويعود لها وهجها؟. تنهدت فتيحة بعمق وهي تعلم الجواب في قرارة نفسها لأنها تعلم أن ما يذهب لا يعود أبدا.