د. جمال الحمصي: الحوكمة الفعالة: هل فشل العلم في فك لغزها؟

د. جمال الحمصي
الإجابة السريعة لمن يفضل الفيديوهات القصيرة (أقل من دقيقة) على المقالات الطويلة: نعم الى حد بعيد، خصوصاً في المجتمعات الكبيرة والمنقسمة والمعقدة المعاصرة. فرغم انبهارنا بالذكاء الاصطناعي وبمفهوم الحوكمة (بمعنى الإدارة العامة الحصيفة) منذ ما يزيد على ثلاثة عقود، لا زلنا في مرحلة “الطفولة” في تطوير علم معياري وعالمي للحوكمة العامة. أما ممارسات الحوكمة، بشقيها الفاشلة والناجحة، فعمرها قرون وعهود منذ بدء الحضارات البشرية وانهياراتها حتى عصرنا الحالي، عصر النخبوية/ الشعبوية الغربية وعصر ما بعد الحداثة.
والحلول المتاحة؟ اما فلسفة براجماتية وترقيعية، يبدو انها لم تعد تنفع الناس كثيراً وتنير العمران الحقيقي في عصر الأزمات السياسية والشعبوية والاستبداد، أو لنرى بماذا يرشدنا القرآن الحكيم والأخلاقيات “الطبيعية” للمخلوقات ذوات الأرجل الستة (النحل والنمل وتحديداً). لكن لنبدأ أولاً بالإجابة السريعة على السؤال المركزي: لماذا أخفقت الحضارة التقنية الهشة في تحقيق النظام والازدهار المستدام؟
لماذا الحوكمة لغز محير في الحضارة العلمية المعاصرة؟
أولاً، بسبب الجهل والعقلانية المحدودة في المجال الأخلاقي والعلوم المعيارية Prescriptive Sciences. فمثلاً، يعترف فوكوياما، المفكر الدولي في الحوكمة العامة، بأنه لا يوجد “علم” نهائي وحاسم في الإدارة العامة (2004)، فقط مبادئ عامة ونظريات سياقية (أي تنطبق فقط ضمن سياق محدد) وقيم متنافسة مثل الكرامة والعدالة والنظام والكفاءة. اذ كما أكّد هذا الكاتب في مقال (قصة التنمية غير المستدامة في العالم العربي) لا حجم (أو ترتيب حوكمة) فريد يناسب الجميع (هامش 1).
وفي حقل السياسة تحديداً، أكّد المفكر السياسي الألماني أرنولد بريخت Arnold Brecht على تراجيديا الفكر السياسي في القرن العشرين، وقصد بذلك صعوبة التوصل الى أساس عقلاني متين ونهائي لأمهات القيم والنظم السياسية الأساسية. وماذا يتبقى إذن في الحوكمة والسياسة “العلمانية” غير الاستبداد أو تعددية جماعات المصالح الخاصة وكلاهما فوضوي وأسوأ من الأخر؟
ثانياً بسبب الغرور البشري: العالِم الغربي سكوت جونسون S. Johnson يرى في كتابه “لماذا أخفقت الحضارات البائدة؟” (2016) ان الغطرسة الاجتماعية وإنكار الأدلة والبراهين بخصوص واقع المشكلات والأزمات المتكررة تشكل السبب الجذري لانهيار المجتمعات والدول والحضارات. مثال ذلك: عدم التعلّم من التجارب الدولية مرجحة الفشل لما يُعرف بدعم الحداثة و”(إعادة) بناء الدول” على النمط الليبرالي في الشرق الأوسط.
وماذا يقول القرآن الكريم؟
على عكس الحكمة السائدة، خصوصاً لدى الباحثين الغربيين، بأن القرآن الكريم وغيره من مصادر التشريع لا تهدينا الى الحوكمة الرشيدة وهي بالتالي فقيرة في حلول فقه العمران، فان تعاليم القرآن الكريم، وسننه الكونية، وخَلْقه، وقصصه التاريخية العابرة للزمان، الى جانب السُّنة والسيرة الصحيحة وسيرة الخلفاء الراشدين، مليئة بالمضامين الغنية والعميقة ولو كانت على مستوى عال وغير تفصيلي.
أسباب هذا الاعتقاد الخاطئ متعددة، تبدأ بقصورنا في الإحاطة بمختلف أنماط الحوكمة العامة وتركيزنا على الحلول المركزية (من أعلى الى أسفل)، وتنتهي ببحثنا بلا طائل أحياناً عن التفاصيل التنفيذية في مصادر التشريع الأساسية وتناسينا للحديث الصحيح “أنتم أعلم بأمور دنياكم”، أي اعلم بالاستنباط العقلي للحلول الفنية والوسائل التنفيذية المسكوت عنها.
لنبدأ أولاً بالتوجيهات الربانية، والتي تقترح حلاً غير تقليدي وغير مركزي في الحوكمة الرشيدة:
وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا
وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى
وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ
والْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ
وفي السنة النبوية، التوافق على دستور المدينة بين المسلمين وغيرهم في إطار تشاركي جامع.
أذن الحل اللامركزي هو في حوكمة الشورى والتعاون والتعارف والتعايش وإصلاح ذات البين بعيداً عن الفردية والأنانية والتسلط، لكنه تعاون على البر والتقوى وليس على الإثم والعدوان، حيث الأقلية والأغلبية معاً تواجه التحديات العضوية والوجودية المشتركة ذاتها!
ففي حين تستغل الرأسمالية أحد أقوى الدوافع الانسانية وأكثرها أنانية ووفرة (وهي الاهتمام بالمصلحة الذاتية الأنانية) في تحقيق الاحتكار والنفوذ والتقدم المادي والتوسع الجغرافي، فإن النظام الإنساني الأمثل هو ذلك الذي يجمع بين أقوى الدوافع البشرية وأكثرها سمواً (الايثار والاهتمام بالآخرين) لتحقيق التنمية التشاركية والمستدامة. والمجتمع النبوي في المدينة المنورة لم يلجأ الى التمويل “التنموي” الخارجي في بناء الدولة وتمويل برامج التنمية، بل اعتمد على مؤسستي المؤاخاة والسوق في تحقيق العمران البشري.
وماذا يُرشدنا القرآن عن الأخلاقيات الرشيدة لأقوى البشر وأضعفها؟
وماذا يُعلّمنا القرآن الكريم عن ممارسات أقوى القادة عبر الحضارات: النبي سليمان الذي أوتي مُلْكًا فريداً (لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) بما فيه تسخير المعرفة التقنية والجنّ وقدرات نقل (عرش عظيم) الفي كيلومتر بطرفة عين!، وذو القرنين الذي أوتي التمكين وكافة أسباب القوّة متعددة الأبعاد (وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا)؟ انها باختصار ممارسات الدعوة (لبلقيس) والشورى (الهدهد وبلقيس)، والعدالة والكفاءة، والتشاركية (في بناء السد) والتواضع وتجنب استخدام القوة الغاشمة.
ومن ناحية أخرى، لم يُورد القرآن سورتين كاملتين باسم (النحل والنمل) عبثاً، بل لتنبيه البشرية الى حوكمة مميزة، يعمل الغرب حالياً على دراستها بعمق في علوم البيولوجيا الاجتماعية والنحل والنمل. فمع انها مبرمجة من قبل خالقها، تتمتع النحل والنمل بحوكمة خارقة (بالمعايير الفوضوية البشرية) في مجال التنسيق اللامركزي والتعاون المجتمعي، بعيداً عن الغطرسة المركزية والفردية الفوضوية معاً. والحديث هنا يطول.
الخلاصة
الحوكمة الرشيدة هي مفهوم خلافي بالضرورة ضمن الفلسفة الغربية النسبية/ الشخصية السائدة حالياً، والربط بين الحوكمة الرشيدة وبين “الكفاءة” او النجاح في تحقيق الأهداف في عصر الشعبوية الغربية يخلط الأمور ولا يميز بين عقلانية الهدف وعقلانية الوسيلة. ويزداد الأمر تعقيداً عندما تفشل الكفاءة بعد الإخفاق في تحقيق العدالة وغيرها من الغايات العليا الأكثر قيمة مثل الكرامة الإنسانية ومقاصد الشريعة والتكاتف الاجتماعي وسعادة الدارين.
هوامش:
هامش (1): متحدثاً في عام 2004 أي قبل الأزمة المالية العالمية ووباء كورونا وكساده وحروب العصر واضطرابات الأسواق، لخص الاقتصادي المشهور ستيجليتز J. Stiglitz معضلة الإصلاح التنموي بقوله: الاجماع الوحيد بخصوص أكثر الاستراتيجيات احتمالاً لتحقيق تنمية أفضل في الدول النامية هو غياب التوافق باستثناء أن اجماع واشنطن (أو سياسات الليبرالية الجديدة) لم يعد يوفر الإجابة.