أحمد الكافي يوسفي: وجود الإنسان وصراعاته

أحمد الكافي يوسفي: وجود الإنسان وصراعاته

 

 

احمد الكافي يوسفي

على سبيل التقديم:

التحرّر قد يصبح سلعة، فيستحيل تشيؤًا كما بيّن أكسل هونيث ؛ والدين بدوره قد يتحوّل إلى سلعة، كما يرى إريك فروم في كتابه “أن تملك أو أن تكون”. في هذا السياق، يمكن للكينونة أن تتشقق وتنشطر وتتشرذم، من خلال الالتباس والتوتر الذي يخترقها.

ههنا يكون رسمُ التوترات بين كينونة ممانِعة تسعى إلى التحرّر، وكينونة متصهينة تُعيد إنتاج الاحتلال بأدوات محليّة، نقدًا/تعرية لمسوخ الغرب الكولونيالي، وفضحًا للتوحّش الإسلامي المصنوع في غرف السياسة الغربية، ومؤكّدًا أنّ المعركة الحقيقية ليست بين الإسلام والعلمانية، ولا بين الحداثة والتقليد، بل بين تحرّرٍ أصيلٍ في وحدته وكثرته، واستعمارٍ مقنّع مهما تعدّدت صِيَغه واختلفت.

في قلب التجربة الإنسانية الواقعية، الفعلية، الفينومينولوجية، الجسدانية، اللحمية، المحسوسة، والملموسة، تتكثّف الكينونة بوصفها فُصامًا بين اشكال من الكينونة المتناقضة: ان تكون كما تريد ان تكون وان تكون كما يُراد ل كان تكون. ههنا نعاين التمفصل الجدلي في الكينونة بما هي “أداة”، حين تُختزل في صورة تُنتج وتُستعمل، لا بوصفها نابعة من الذات، بل بوصفها مرآةً للآخر، تحديدًا الآخر الكولونيالي، وبما هي تعبير عن ارادتها وحريتها وتميزها وخصوصيتها حين تزيغ عن هذه السسكك المتصلبة الكولونيالية.

فالكولونيالية ليست حدثًا تاريخيًّا فحسب، بل هي بنية مستدامة تتخفّى في اللغة، والمعرفة، والدين، والحقوق، والديمقراطية. إنها استعمارٌ للكينونة لا بالسلاح، بل بالرموز والتأويلات، حيث تصير الذات مُصاغةً من خارجها، وتتوهم الحرية بينما تكرّس خضوعها عبر مفردات لا تصدر عنها، في إطار ممارسة فردية واجتماعية وتاريخية.

ههنا تبرز الإشكالية المحورية لهذا المقال:

كيف يمكن للكائن العربي-المسلم أن يقف على حقيقة التمزق بين كينونةٍ متحرّرة تُنتج ذاتها من الداخل، وكينونةٍ مُمأسسة تُعاد صياغتها باستراتيجيات السيطرة الرمزية والسياسية؟

وما السبيل إلى مقاومة هذا الاستعمار المركّب، حين يتّخذ وجوهًا دينية، حداثية، ديمقراطية، حقوقية، بل وحتى تحرّرية في الظاهر؟

ما مدى وعي الكائن العربي-المسلم بهذا الصراع بين كينونةٍ ممانعة ومضادة لها خصوصيتها في علاقة بذاتها والانسانية جمعاء، وبين كينونة متصهينة تسير ضمن مصفوفةٍ كونية تحكمها قوى الهيمنة.

1) في نقد كولونيالية “الكينونة”:

يعتبر تايلور في كتابه مصادر الانا: تكوين الهوية الحديثة ان الجواب عن سؤال الهوية ليس بالاسم والنسب بل “بالاعتراف بما هو اساس بالنسبة الينا، ان اعرف من اكون يعني ان اعرف الموقع الذي احتله”. ههنا نقدر، بضرب من التاويل القائم بالجوهر على نقد المجتمع بالدلالة الفرانكفورتية ( النظرية التقليدية ونقد المجتمع) انه ثمة توتر والتباس في هذا الاساس، ههنا، نقرر بلازيسية الهوية الفينومينلوجية/المتجسدة/اللحمية/المحسوسة .فالتزاماتنا وضروب تحقق ذواتنا يعتمل في صلبها التناقض والتوتر فهي ليست ثابتة ولا مطلقة ولا متجانسة وهو ما ما يبرر الحديث عن “تمزق” ( اكسيل هوناث) الهوية او اشكال تحقق الذات اوالافق اوالالتزامات.

ازمة الهوية في هذا السياق ليست في فقدان الالتزامات والافق وترحل الانسان من هوية الى اخرى كان ينتقل من هوية شرقية الى اخرى غربية بل في التمزق والتوتر الذي يعتمل في صلب الهوية بين الكولينيالي والديكولونيالي

في هويتنا ، في ما به نكون هناك التباس يمكن التعبير عنه بمفاهيم اريك فروم الذات والانا. يقول اريك فروم:” تجربة الذات وهوية الذات تبنيان على مفهوم الحصول على، ( شئ) أي الامتلاك. فانني امتلك”اناي” كما لدي اشياء اخرى تمتلكها هذه “الانا”. وهوية “الانا” او “النفس” ترجع الى مقولة الوجود لا الى مقولة الحصول او الامتلاك. فانني اكون انا في النطاق وحده الذي اكون فيه حيا، مهتما، مرتبطا، نشيطا، في النطاق الذي اكون قد حققت فيد دمج الصورة التي اعطيها للآخرين او لي انا نفسي، بنواة شخصيتي.”

ان ازمة كينونتنا وبلازيستها وفصامها وتوتراتها من هذه الجدلية الكامنة في صلبها من خلال تراوحها بين الحصول على “انا” صنعه الغرب الاستعماري او ذات كولولينيالية وانا ديكولونيالية حيا نشيطا فاعلا مضادا لهذه الاصنام التي صنعها الغرب الاستعماري له.

ما به يكون البعض منّا “هو ما هو”، هو في الحقيقة صناعة غربية كولونيالية، أي إنّ ذاته صنعها الغرب (كما يصنع الغرب السيارات والمسيّرات والطائرات والجعّة، يصنع الثقافة والذات والحقوق والإنسان والتحرير، وحتى الفتح والإسلام والرب) بمقولاته عبر أنظمة متعددة ومختلفة. هذه الذات لا تكون بذاتها بل بغيرها. وهي، إذ تكون بغيرها لا بنفسها، تتوهّم أنها هي نفسها، لا شيء غير نفسها، وأنها واعية بذاتها، وأنّ ذاتها من صناعة نفسها، والحال أنها في حالة اغتراب قصوى. إنها مسخ من مسوخ الغرب الكولونيالي، إذ لا تصدر عن نفسها بل عن غيرها، من جهة الكينونة في كل تجلياتها.

بمعنى أنه إذا لم نخرج من مقولات الغرب الكولونيالية القائمة على “المصفوفة” (Matrix): “هذا كذا… وذاك كذا”، فإننا نغرق في الكولونيالية القائمة على التقسيم وتقسيم المقسّم والتذرير والفوضى . فالتجربة المعيشة الكولونيالية لها لغتها ورموزها التي تظهر وتفضح “الكينونة المحتلّة”،. فبمجرّد أن يتكلّم البعض منّا، يفضح نفسه بنفسه، التي هي ليست نفسه، بل نفس “كولونيالية”.

ههناأ اعتمادا على المعجم الفوكولتي ، يمكن الحديث عن “نفس كولونيالية” تعبّر عن ميكروفيزياء وماكروفيزياء السلطة الكولونيالية. ففي اسلامنا المتجسد كهوية مطبّقة وعينية يمكن العثور على تكنولوجيا الكولونيالية من خلال المراقبة والعقاب مثل مراقبة المسجد والخطاب الديني ومعاقبة كل اشكال الزيغ عن اسلام يتناقض مع مصالح الغرب الاستعماري. هذه “النفس الكولونيالية” التي تؤرخ لل”سلطة الكولونيالية” لا تتمظهر في الديني فقط بل في كل المجالات من ماكل ومشرب وملبس ورقص واحتفال وفرح الخ…

كل نفس زيغية ومارقة عن محددات هذا الاسلام الذي يقوم على الامتثال لتعليمات الغرب الاستعماري، كل اسلام يتمرد على هذه الصيغة الغربية المركزية يستحيل ارهابا وتطرفا وتوحشا لا لشئ الا لانه تناقض مع مصالح الغرب او البراديغم الغربي الاستعماري

في هذه الحالة، فأنت كائن كما أرادك الغرب الاستعماري المتمركز حول ذاته أن تكون. مثلًا، لا يمكنك إلا أن ترى في سوريا ما يراه الصهاينة والأمريكان: ترى الاستعمار تحريرًا، والتخريب بناءً، والإرهاب فتحًا. لا يمكنك أن تحطّم هذه الأصنام التي استعملها الغرب لتدجينك وجعلك أداةً وموضوعًا وشيئًا كبقيّة الأشياء، لاستعمالك ضدّ نفسك وتاريخك ودينك وربّك وماضيك ومستقبلك…ما هو متجسد اذن وتطبيقيا وبراكسيسيا هو في لعبة السلطة الكولونيالية. انت تجسد روحا ليست روحك بالحقيقة بل بالوهم فهي روح مستوردة غربية كولونيالية لا تراك ذاتا اصلا بل مجرد ذات موضوع او قل ذاتا كما تتصورها الذات الغربية ليست مستقلة ولا حرة بل ذات بالمفهوم “الفرومي” ( اريك فروم) بما هي ملكية مادية لا علاقة لها بالانا بما هو ابداع وطرافة وإضافة وخصوصية وتميز. الغرب خلق ذواتا موضوعة او وضع ذواتا عبر صناعة الثقافة وصناعة السياسة وصناعة الجغرافيا وصناعة الدولة و صناعة الاسلام وصناعة الانسان

النفس بالدلالة الفوكولتية التي تختلف عن الروح لا تولد آثمة وقابلة للعقاب بل تولد من اجراءات العقاب والمراقبة والقصاص. كذلك يمكن القول ان “النفس الكولونيالية” تولد من اجراءات او “انجيل” الغرب الاستعماري

هذه النفس الواقعية الكولونيالية ليست جوهرا بل عنصرا تتجسد فيه اوامر وآثار الكولونيالية التي بلغت حد الاغتراب الاقصى بلغة ماركيز حتّى ان الضحية بلغت حد الدفاع عن جلادها، مثل المسلم الذي يدافع عن من يذبحه ويبيده وما ينفك يبرر ضعفه وتفوّق الغرب ليشرعن الخضوع والاحتلال . هذه النفس الكولونيالية “باتت ذاتا مستلبة مستوعبة في وجودها المستلب” ” عندما يتماهي الافراد مع وجودهم المفروض عليهم، ويجدون فيه تحقيقا وتلبية” حسب عبارات هربارت ماركيز

اذن، الانسان المتعالي الذي تتحدث عنه بعض الفلسفات لا وجود له ذلك ان الانسان في ارض الواقع هو مجرد اثر من آثار السطة الكولونيالية لكن في ذات الوقت هناك نفس مضادة مناقضة متعددة ومختلفة ومتنوعة تجاهد ضد هذا الاثر والارث والتراث النفسي الكولونيالي وهو ما يبر الحديث عن التمزق كمكون للنفس بعامّة حيث الصراع بين ابعاد متعددة ومختلفة في صلبها. فما حدث من تجارب مقاومة ديكولونيالية تختلف من قطر الى آخر ومن شخص الى آخر هو تشديد على هذا البعد التكويني الالتباسي للنفس الواقعية الفعلية في عالمنا العربي الاسلامي.

2) كولولنيالية المعرفة و كولونيالية اللغة:

هاهنا تكون المعرفة كولونيالية، واللغة كولونيالية، وطريقة الوجود كولونيالية. هاهنا تنميط لأفكارنا وسلوكنا بطريقة كولونيالية. ومن سمات هذه الكولونيالية: ظهور التقليد والتبعية والدونية واحتقار “الذات” وسحقها، حسب مقاييس متداولة معمّمة، كما يظهر في تجاربنا الحياتية المختلفة. كأن ندين كل تجربة سياسية غير متوافقة مع الغرب، عبر مصفوفات “حقوق الإنسان” و”الديمقراطية” و”الحريات”… رغم أنّ هذه الأنظمة المحليّة، رغم تعثّرها وأخطائها، قد تكون أكثر إنسانيّة وتقدّمًا من دول تعتبر نفسها “عريقة” في الديمقراطية وحقوق الإنسان.

3) الكينونة الممانعة مقابل الكينونة المتصهينة:

كما أنه لا يمكن لأحد أن يقوم مقامي في موتي، أي أن يموت بدلًا عني، فإنه لا يمكن لأحد أن يكون كينونتي. الكينونة لا تُستعار. إما أن تُنتزع من الكولونيالية عبر مسار مضادّ، مهما كانت انحرافاته — لأنها عناصر مُشكّلة له — وإما أن تظل غارقة في الكولونيالية، تهذي بمقولات لا تعبّر عن أرضها وجغرافيتها وتاريخها ودينها وربّها. إمّا أن تكون كينونة مقاومة ممانعة، وإما أن تكون كينونة متصهينة، متأمركة، متأوربة.

4) جرحنا الكولونيالي:

“جرحنا الكولونيالي”، في وطننا العربي، هو بالجوهر اغتراب أقصى، تعيشه مرتزقة الفكر الغربي. حيث استحال هؤلاء عبيدًا من جهة الفكر، يتلذّذون عبوديتهم، ويعتقدون اعتقادًا راسخًا أنهم على حق، وأنهم تقدميّون، ومواطنون، وحقوقيّون، ويدافعون عن الإنسانية والحداثة والدولة المدنية.

نعم، يعيش بيننا “مرتزقة” الفكر الغربي — أي “حشد” فكري — يرتزق من أفكار الحداثة والعلمانية والتقدّم والحرية والديمقراطية والحقوق. هذا الحشد الفكري الأداتي لا فرق بينه وبين “الجولاني” الإرهابي في سوريا، الذي يزغرد له جرذان الحلف الأطلسي في العديد من المناطق العربية ويدعمونه في حربه القذرة ضد الشعوب والدول.

“الحشد” الأول نظري، والثاني عملي. الأول يفكّر بمقولات استعمارية، والثاني يُنفّذ سياسة استعمارية. الجولاني ليس شخصًا فقط، بل هو فكر وعقل وتصور ورؤية وممارسة. هو بنية فكرية-عملية مخاتلة: تارةً تذهب إلى “الحقوق والحريات” لتُخفي تصهينها وتأسلمها العميل، وطورًا تعتمد تقيّة رفض كل أشكال الميليشيات والطائفية وربّما كل الأديان، وأحيانًا تركب قطار “الثورات” ومواجهة “الديكتاتوريات”… وكل هذا ليس سوى تعبيرات عن كينونة كولونيالية.

5) التوحّش الغربي والتوحّش الإسلاموي:

النواة المركزية في مشروع “الشرق الأوسط الجديد” و”إسرائيل الكبرى” هو الإسلام السياسي — الخوانجي، الداعشي. هذا هو الإسلام الذي صنعه الغرب للمسلمين كي يُدمّر المسلمون أنفسهم بأنفسهم. انه “إسلام ناجع”، أو “إرهاب ناجع”: مقدّس، عميل، خاضع، أداتي، وظيفي. يتم تحويره وتحويله حسب مقتضيات كل دولة وكل مرحلة.نسخته السورية ليست كالنسخة التونسية أو الليبية. هذا “الإسلام” هو تدمير ذاتي من اجل “بناء” الشرق الأوسط الجديد الصهيو-أمريكي.

اما على مستوى الممارسة السلمية المدنيّة التي تبرز كمضاد لل”دينوقراطية”: تُصطنع أحزاب ومنظمات بتمويل أجنبي، أو يُخترق الفعل الاحتجاجي الحقيقي في اطار المشروع الكولونيالي الذي يقوم على تداولية المقدّس والمدنّس من اجل تاويج المنافع الغربية

واما على مستوى الممارسة العنيفة هناك فصائل مسلّحة سواء كانت ذات مرجعية دينية او لادينية وهناك عمليات تسمى “ثورية” مهما كانت مرجعياتها وهي في الحقيقة تؤطر من الغرب وتوجه ويدافع عنها وةيحميها ويمولها.

هنا يمكن ان نقدّم النقاط التوضيحيّة التالية:

ان الفعل الإرهابي ، في المعجم الكولونيالي، قد يُصبح “فعلًا ثوريًّا” حسب منطق الدول الاستعمارية. فهذا الفعل يتحدد حسب العرض والطلب ومقتضيات السوق الغربي الذي يري ان يكون سيدا ومالكا للعالم. فالمسألة لا تتعلق بالديمقراطية ولا بالديكتاتورية، بل بصيغة استعمار جديدة. والمظاهرات والانقلابات أدوات سياسية تُستخدم مثل السلاح. فأمريكا التي قادت القطيع الإسلاموي العميل في معاركها ضد الاتحاد السوفياتي سابقًا، تقود اليوم قطيعا دينيا او ثوريا او ديمقراطيال حسب مقاييسها، ضد الدول الوطنية والممانعة التي تهدد مصالحها.

على سبيل الخاتمة:

على سبيل الخاتمة:

الكينونة ليست معطًى كولونياليًّا يُحدَّد من عل، ولا جوهرًا مكتملًا يُسلَّم به سلفًا، بل هي مسار جدلي مفتوح، تتخلّله التناقضات، وتعتريه الصراعات، وتشكّله توترات لا تُختزل في بعد واحد. ليست الكينونة يقينًا يُطمأن إليه، ولا شكًّا يُغلق الأفق، بل نقدٌ متواصل يتغذّى من التوتر نفسه، باعتباره قوة خلق ومأزق خلاّق .

فهي لا توجد إلا في اشتباكها:

– اشتباك مع صورها التي تُفرَض عليها،

– ومع ذاكرة تُستدعى لتُستعمل،

– ومع رموز تصوغها لكي تُستغل.

إن جوهر الكينونة، في زمن التشيؤ والاستعمار الرمزي، لا يُستعاد إلا حين تُمارَس بوصفها فعل مقاومة رمزية وجسدية وتاريخية في آن، ووعيًا مستمرًّا بانقسام الذات، لا هروبًا منه.لذلك، فالكينونة اللحميّة ليست هي التي تتوتّر لتصير.

: باحث في الفلسفة بين الحداثة والحداثة المغايرة