يونس الديدي: إسرائيل من “الضربة الأولى” إلى الاختباء في الملاجئ

يونس الديدي: إسرائيل من “الضربة الأولى” إلى الاختباء في الملاجئ

 

 

يونس الديدي
وسط ليلٍ متوترٍ ومثقلٍ بإشارات التصعيد، اتخذت إسرائيل قرارها الكبير. ضربة وُصِفَت في الصحف العبرية بأنها “افتتاحية”، استهدفت مواقع إيرانية يُعتقد أنها على صلة بتطوير القدرات النووية. العملية كانت محسوبة ومخططة، لكن الرهان الأكبر كان نفسيًا واستراتيجيًا: أن تظهر إسرائيل كقوة مبادرة، قادرة على إعادة تشكيل قواعد اللعبة في المنطقة. لكنها سرعان ما اكتشفت أنها دخلت مباراةً بلا نهاية، مع خصمٍ يُجيد إدارة الوقت، ويُجيد أكثر تصدير المعركة إلى الداخل الإسرائيلي.

سردية الهجوم: من قوافل الحرية إلى قنابل الظل

الضربة التي روّجت لها إسرائيل على أنها “ضرورية” لمنع إيران من امتلاك سلاح نووي، جاءت في توقيت بالغ الحساسية. العالم لم يكن يركز حينها على البرنامج النووي الإيراني، بل على كارثة غزة، وعلى جريمة إبادة جماعية تُوثَّق كل يوم على منصات التواصل وفي تقارير المنظمات الدولية. قوافل الحرية القادمة من مختلف العواصم، من إسطنبول إلى كيب تاون، ومن لندن إلى كوالالمبور، بدأت تحاصر إسرائيل أخلاقيًا، وتكسر احتكارها للرواية، وتُعريها أمام الرأي العام الغربي.

وسط هذا الانكشاف العالمي، بدت الضربة على إيران كمحاولة للهروب إلى الأمام: نقل التركيز من الإبادة إلى النووي، من أطفال غزة إلى العلماء الإيرانيين. لقد أرادت تل أبيب أن تُعيد ترتيب وعي الإعلام العالمي: من مجرّد قوة استعمارية إلى لاعب في محور “الديمقراطيات الغربية” التي تواجه “التهديدات الوجودية”. ومن هنا جاء خطاب “نحن نقاتل نيابة عن أميركا وأوروبا”، وهو خطابٌ لم يعد يجد ذات الصدى في برلمانات الغرب، خاصة بعد أن فشلت إسرائيل في إقناع حتى بعض حلفائها بأنها ما زالت حاميةً لـ”القيم الليبرالية”.

لكن المعضلة لم تكن فقط في فشل السردية الأخلاقية، بل في فشل التقدير الاستراتيجي نفسه. فكما ثبت لاحقًا، لم تكن المنشآت المستهدفة مركزية في مشروع إيران النووي، ولا أحدثت الضربة أضرارًا استراتيجية طويلة الأمد. بل العكس، فقد أعادت طهران ترتيب دفاعاتها، وفعّلت “حق الردّ”، لكن ليس على طريقة التصريحات. الردّ جاء صاروخيًا، متدحرجًا، ومتواصلًا.

ما بعد الضربة: الغبار يتساقط فوق تل أبيب

لم تتأخر إيران في الانتقال من الصمت إلى النار. ومع كل صاروخ يعبر سماء الجليل، ومع كل طائرة مسيّرة تنجح في اختراق المجال الجوي الإسرائيلي، كانت صورة “الردع الإسرائيلي” تتفتّت. تل أبيب لم تعد عنوان الأمن، بل صارت مدينة مشلولة. صفارات الإنذار باتت جزءًا من إيقاع الحياة، والملجأ صار امتدادًا لغرفة المعيشة. المواطنون يسألون: أين ذهبت المليارات التي أُنفقت على القبة الحديدية؟ لماذا لا تستطيع الدولة صدّ هجوم بهذه الكثافة؟ الإجابة كانت صادمة: هذه ليست حماس، ولا حزب الله فقط، هذه إيران.

صحيح أن الولايات المتحدة ما تزال تنسق استخباراتيًا مع إسرائيل، لكن واشنطن لا تريد حربًا مفتوحة. إنها تمارس لعبتها القديمة: إرسال البوارج، إطلاق التهديدات، لكن دون ضغط الزناد. إدارة بايدن تدرك أن دخولها حربًا مباشرة ضد إيران، وهي على أعتاب انتخابات رئاسية، سيكون انتحارًا سياسيًا واستراتيجيًا. ولذلك، تُفضل أن تدير حرب استنزاف نفسية، تُرهق إيران دون أن تُشعل الخليج.

لكن هذا التردد الأميركي كشف عُزلة إسرائيل أكثر مما حماها. تل أبيب بدت كقوة صغيرة تشعل نارًا لا تُسيطر عليها، وتنتظر تدخلًا أميركيًا لا يأتي. وفي الوقت الذي كانت فيه الصحف العبرية تبحث عن مؤشرات على تدخلٍ أميركي محتمل، كانت طهران تُطلق إشارات معاكسة: نحن هنا، لن نُفاجأ، ولن نسقط.

في خضم ذلك، لم يظهر أن الضربة قد أوقفت البرنامج النووي الإيراني أو عطّلته. لا معلومات دقيقة وصلت من داخل إيران تؤكد نجاح الضربة في تدمير أجهزة الطرد المركزي أو مواقع التخصيب الحرجة. كل ما تم تداوله مصدره تسريبات إسرائيلية، وهي ذات المؤسسة التي لطالما بالغت في تقديراتها الميدانية، كما حدث في لبنان عام 2006، وفي غزة مرارًا.

الخسائر في الداخل الإسرائيلي بدأت تتراكم: اقتصاد متأرجح، قطاعات خدماتية مشلولة، وتراجع في ثقة الجمهور بالجيش. وكأنما تل أبيب، التي أرادت أن تفتتح الجولة، وجدت نفسها تفتح الباب فقط لعصر جديد من التهديدات. عصر لم يعد الإيرانيون فيه يردّون على الورق، ولا يتفاوضون في الظل، بل يقاتلون من السماء، وبحسابات دقيقة.
خاتمة: إسرائيل تُمسك بالزناد لكنها لا تُمسك بالمشهد

الضربة التي أرادت أن تكون لحظة الهيمنة الجديدة لإسرائيل، تحوّلت إلى مرآة كاشفة لأزمتها الداخلية والخارجية. لم تنجح في إعادة تدوير صورتها عالميًا، ولم تنجح في تحجيم إيران. لم تُسقِط منشآت، ولم تُقنع البيت الأبيض بتغطية شاملة. إنها ضربة جعلت الكيان في موقف دفاعي، سيكولوجي قبل أن يكون عسكريًا.

إيران، من جهتها، لم تعلن النصر، لكنها فرضت معادلة جديدة: لن يكون هناك هجوم بلا ردّ، ولا قصف بلا حساب. أما أميركا، فهي تمارس فنّ التأرجح: لا تريد الحرب، لكنها لا تريد أيضًا أن ترى حليفتها تنهار. وهكذا تبقى المنطقة معلقةً على خيط: خيط من نار، يتدلّى فوق رؤوس الجميع.
كاتب مغربي