الكيان الصهيوني واستراتيجية إشعال اللحظة السياسية

د. هاني العدوان
في السياسة، لا توجد صدفة، كل تفصيل محسوب، وكل حدث كبير خلفه عقل بارد يخطط ويترصد اللحظة، وعلى هذا القياس، لا يمكن بأي حال أن يفهم التصعيد العسكري الأخير بين الكيان الصهيوني وإيران، والذي وصل إلى ضرب منشآت نووية واغتيال قادة كبار في الحرس الثوري، على أنه مجرد رد فعل أو حدث منفصل عن السياق السياسي العالمي، بل إنه في جوهره عملية تضليل كبرى تهدف إلى تحويل الأنظار، وكبح الزخم المتصاعد نحو الاعتراف الدولي المتجدد بدولة فلسطين
جاء التصعيد في وقت حرج، تزامنا مع الاستعدادات لعقد مؤتمر دولي تدعمه قوى وازنة في أوروبا وأمريكا اللاتينية، بل وحتى في بعض أروقة الغرب التقليدي، للاعتراف الجماعي بفلسطين كدولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة، تحرك أربك الكيان ، وأشعل في داخله فزعا وجوديا، لا سيما في ظل تراكم ملفات الجرائم في غزة، وتزايد المطالبات بمحاكمة قادته كمجرمي حرب أمام الجنائية الدولية
ولأن الكيان يدرك أن خسارته لساحة الشرعية الدولية هي خسارة إستراتيجية، فإنه ما انفك يستعين بسلاحه الأثير، تفجير الأزمات الأمنية وخلق بيئة من التوتر الإقليمي، تكون كافية لتغيير سلم الأولويات العالمي
ليس جديدا على الكيان أن يعطل أي تحرك أممي في صالح الفلسطينيين، التاريخ حافل بأمثلة صارخة على توظيف العنف المدروس والتوترات الإقليمية لتعطيل قرارات أو مؤتمرات أو حتى مجرد نقاشات حول فلسطين،
ففي عام 2011، عندما تصاعدت الحملة الفلسطينية لنيل الاعتراف بدولة غير عضو في الأمم المتحدة، فجر الكيان أزمة مع غزة عشية التصويت، مما أعطى ذريعة لواشنطن وبعض العواصم الأوروبية للامتناع أو التحفظ
وفي عام 2015، خلال طرح مشروع قرار وفي مجلس الأمن لإنهاء الإحتلال ضمن جدول زمني، صعد الكيان عمليات الاغتيال في الضفة والقدس، وتذرع بالوضع الأمني لإفشال المشروع
وفي 2018، ومع تنامي الحراك الدولي لنقل السفارات إلى القدس، أطلق الكيان مسيرات العودة الكبرى في غزة، ورد عليها بارتكاب مجازر، هدفها خلق فوضى تصرف الأنظار وتمنع تشكل جبهة دولية مضادة
واليوم، يعيد الكيان تشغيل ذات “الماكينة” يفتعل معركة مع إيران، يجر المنطقة إلى حافة الانفجار، في محاولة لاستخدام إيران كفزاعة لتبرير عدوانه، وصرف الأنظار عن جرائمه، وتحطيم أية بيئة دبلوماسية مواتية للاعتراف بفلسطين
بغض النظر عن الموقف من إيران، فإن استغلال الكيان لها في هذه اللحظة الحساسة ليس صدفة، فكلما لاح في الأفق حراك لصالح فلسطين، ينبري الإعلام الصهيوني وحلفاؤه إلى تسويق إيران كـ”الخطر الأكبر”، لتصوير إسرائيل كخط الدفاع الأخير عن الغرب في وجه الشر الفارسي، فتغلق العيون عن المذابح في غزة، وتكتم الأصوات التي تنادي بفلسطين
والأخطر من ذلك، أن هذا التكتيك يلقى تجاوبا في بعض العواصم الغربية التي ترتعد من شبح الحرب في الخليج، فتجمد المواقف السياسية، ويعلق أي دعم للفلسطينيين بدعوى الانشغال بالتطورات
الكيان لا يفتعل الأزمات عبثا، بل وفق توقيت دقيق، ووفق حسابات تعرف أين تضرب ومتى، لذلك، فإن الرد العربي والدولي يجب ألا يكون بالتفاعل مع الحدث وفق شروطه، بل بكشف هدفه وتفكيك أبعاده، لا بد أن يقال بوضوح ما يحدث مع إيران لا يلغي حق فلسطين، ولا يعلق العدالة، ولا يسقط الجرائم من السجلات
وما يجب أن تدركه القوى الحية في العالم أن كل تصعيد من الكيان في توقيت مفصلي هو محاولة لاغتيال الحلم الفلسطيني دبلوماسيا، بعد أن أجهز عليه دمويا في غزة