مأساة دلجا: الأب يترك أطفاله الستة وراءه، بينما تبقى الأم تواجه تحديات الحياة وآلامها.

بقلم د/سماح عزازي
في أرض الصعيد، حيث الجذور ضاربة في عمق التاريخ، وحيث تُولد الحكايات على ألسنة الريح وتُروى على ضوء القناديل، جاءت مأساة “دلجا” كطعنةٍ في خاصرة الإنسانية. لم تكن مجرد حادثة عابرة تُدوّن في دفاتر الشرطة، بل كانت فصلاً دامعًا في رواية الوجع الإنساني، حين يتحول البيت إلى شاهد قبر، والليل إلى كفن، والصباح إلى جنازة لا تنتهي.
مأساة تُجسد الكارثة بكل تجلياتها: أطفال ستة يُنتزعون من حضن الحياة في غفلة، وأبٌ يختنق بالحزن فيموت واقفًا، وأمٌ تمشي على حافة الغياب، بين صراخ القلب وغيبوبة الجسد. إنها الحكاية التي لا تُروى إلا بالدمع، ولا تُكتب إلا بالحسرة، وتظل شاهدة على أن هناك وجعًا يفوق الكلمات.
في واحدة من أبشع المآسي الإنسانية التي شهدتها صعيد مصر مؤخرًا، استيقظت قرية “دلجا” التابعة لمركز دير مواس بمحافظة المنيا على فاجعة تقشعر لها الأبدان، وتدمع لها القلوب قبل العيون. مأساة ليست كسابقاتها من حوادث، بل وجع متسلسل أخذ ستة أطفال دفعة واحدة، وألقى بأبيهم في أحضان الموت من بعدهم، بينما تقبع أمهم الآن على سرير الألم، بين الحياة والموت، في مستشفى أسيوط الجامعي.
ليل أسود في بيتٍ خفت فيه النور
لم يكن ليل “دلجا” كأي ليل. ففي ذلك البيت البسيط الذي تسكنه أسرة مكونة من أب وأم وستة أطفال، تراوحت أعمارهم بين عامين و13 عامًا، خيّم الحزن بثقله حين فقدت الأسرة الصغيرة أطفالها الستة في لحظة واحدة، إثر تسرب غاز داخل المنزل.
تسرب صامت، تسلّل إلى الرئة كما تتسلل الخيانة إلى القلب، خطف أنفاس الأطفال الستة وهم نيام، كأنهم أزهار قُطفت فجأة من بستان الحياة دون وداع. وفي الصباح، لم تكن هناك ضحكات ولا خطوات صغيرة ولا صخب طفولي. فقط، سكون يشبه الصدمة، ودموع تئن من هول المشهد.
الأب لم يتحمل الفقد… فلحق بهم
لم يكن قلب الأب، الحاج محمد عبد الله، قويًّا بما يكفي ليحتمل خبر فقدان ستة من فلذات كبده دفعة واحدة. حاول أن يقاوم، لكن حزنه انتصر عليه. أصيب بانهيار عصبي ونُقل إلى العناية المركزة بين الحياة والموت، قبل أن يُعلن الأطباء وفاته، ليلحق بأطفاله، وكأن قلبه رفض أن ينبض في غيابهم.
الأم… بين نصل الغياب وخنجر الانتظار
وحدها الأم الآن، تُصارع وجع الفقد ومرارة الوحدة. نُقلت إلى مستشفى أسيوط الجامعي في حالة حرجة، إثر تعرضها للاختناق ومحاولات إنعاش متكررة.
لم تكن تعلم حين خرجت في الصباح ما ينتظرها من كارثة ستقلب حياتها إلى حطام. أمٌ أُخذت منها روحها سبع مرات، ستة حين مات أطفالها، وسابعة حين سكن زوجها الثرى.
يقول شهود العيان من أهل القرية إن الأم ظلت تصرخ بكلمات تفتت الصخر: “الولاد راحوا… محمد راح كمان… أنا فاضلي إيه؟”، ثم دخلت في غيبوبة لا تزال تلازمها حتى لحظة كتابة هذه السطور.
دلجا تبكي… وصعيد مصر كله يرتجف
تحوّلت قرية دلجا إلى مأتم كبير، لا يُسمع فيه إلا البكاء والنحيب. جيران الأسرة لا يزالون غير مصدقين. كيف لطفلٍ لم يتجاوز العامين، كان يلعب بالأمس في الأزقة، أن يغادر بهذا الصمت؟ وكيف لتلك الأم الطيّبة، التي كانت توزع حلوى على أطفال الجيران، أن تُكافأ بكل هذا الألم؟
شيّع الآلاف من أهالي القرية الجثامين في جنازة مهيبة، حملت فيها النعوش الصغيرة على الأكتاف كأنها قلوب محمولة بالحسرة. كل القرية كانت هناك.
رجال ونساء، شيوخ وشباب، الكل حضروا ليودّعوا أطفالًا لم يرتكبوا في حياتهم سوى براءتهم.
تساؤلات تبحث عن إجابة
تسرب الغاز القاتل فتح الباب أمام تساؤلات كثيرة عن إجراءات السلامة داخل منازل الصعيد، وعن مدى الوعي المجتمعي بمخاطر الأجهزة المنزلية، لا سيما مع تكرار هذا النوع من الحوادث. مأساة “دلجا” ليست الأولى، لكنها بالتأكيد الأكثر وجعًا، لأن ضحاياها أطفال، وأبٌ مات من الحزن، وأمٌ لا تزال على أعتاب الرحيل.
صرخة في وجه الإهمال
إن ما حدث في “دلجا” ليس قدرًا محتومًا فقط، بل جرس إنذار مدوٍّ لغياب الوعي، وتجاهل حملات التوعية، وتقصير من الجهات المعنية في فرض معايير السلامة. آن الأوان لأن نعيد النظر في تفاصيل الحياة اليومية داخل القرى، ونعيد للبيوت أمنها المفقود.
حين يصبح الحزن وطنًا
في دلجا، لم تمُت أسرة فقط، بل ماتت معها لحظة أمل، وضحكة كانت تُشبه الغد. مأساة تتعدى حدود الجغرافيا لتصبح قصيدة حزن تُتلى على جبين الوطن، تُذكّرنا كم هو هش هذا الكائن البشري أمام صدمة، وكم هو موجع أن تُصبح الحياة فجأة مقبرة مفتوحة.
دلجا اليوم حزينة، لكنها تُعلّمنا — رغم الجرح النازف — أن المحبة والرحمة هما ما تبقى في زمن الفقد، وأن الحزن حين يسكن بيتًا، يطرق كل الأبواب.
لم تكن “دلجا” يومًا تعرف أنها ستُصبح مرثيةً تُتلى على مآذن الحزن، ولا أن بيتًا من بيوت الطيبة والرضا سيتحوّل إلى عنوان لمأساةٍ تقطع الأنفاس. لكن ما حدث، حدث، وها هي الأرواح تودّعنا، بينما تترك خلفها أسئلة معلّقة، وقلوبًا ثقيلة، وأمًا معلّقة بين الأرض والسماء.
ربما لا نستطيع أن نعيد الزمن، ولا أن نبدّل القدر، لكننا نستطيع أن نصرخ بما تبقى من ضمير: كفى عبثًا بأرواح الفقراء، كفى صمتًا على الإهمال، كفى استهانةً بالحياة.
لأن الحزن إن بدأ في دلجا، فهو لن يتوقف هناك… ولأننا جميعًا، شئنا أم أبينا، جيران ذلك البيت المنكوب، وساكنو ذلك الليل الثقيل.