إبراهيم نوار يتناول: التنمية ليست مجرد توازن بين الشرق والغرب

إبراهيم نوار يتناول: التنمية ليست مجرد توازن بين الشرق والغرب

إبراهيم نوار يكتب :التنمية ليست لعبا على الحبال بين الشرق والغرب

 

في خمسينات القرن الماضي اختارت قيادة مصر الانتقال من المعسكر الغربي إلى الشرقي. وتحقق ذلك من خلال صفقة أسلحة (1955) ومساعدات تنموية من الاتحاد السوفييتي. وبعد نحو 20 عاما، اختارت القيادة (الجديدة) الرحيل عن المعسكر الشرقي والعودة للغربي (1971). وتحقق ذلك من خلال صفقات أسلحة مع أمريكا (بعد معاهدة كامب ديفيد) وقروض من صندوق النقد الدولي (1977). ومع أوائل الربع الثاني من القرن الحالي تلوح في الأفق بوادر انتقال جديد إلى المعسكر الشرقي، عبر صفقات أسلحة ومساعدات تنموية من الصين وروسيا. لكن هذه البوادر لا تحمل بصمة الانتقالات السابقة التي اتسمت بميول سياسية واقتصادية سلبية ضد المعسكر السابق. فلا تزال الأسلحة الأمريكية تتدفق على مصر (بشروط)، ولا يزال صندوق النقد الدولي هو “مايسترو” السياسة الاقتصادية المصرية حتى الآن.
وقد تسلمت مصر أخيرا منظومة دفاع جوي من الصين، وربما تحصل على طائرات صينية متقدمة لتعزيز سلاحها الجوي، كما تتوطن فيها أنشطة ومشروعات صينية كثيرة في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، جنبا إلى جنب مع منطقتين صناعيتين روسيتين، واحدة في برج العرب والأخرى في منطقة قناة السويس، إضافة إلى المحطة النووية العملاقة التي تقيمها روسيا في الضبعة، وإمدادات القمح. ومع أن خيارات مصر في تحالفاتها الخارجية والاقليمية تعكس مصالحها، فإن طريقة إدارة هذه التحالفات ترافقت في السابق مع إخفاقات كثيرة، يجب الحذر من تكرارها. من الإخفاقات الخطيرة التي نحذر منها مبكرا، خلو مصر من جهاز انتاجي قادر على إقامة اقتصاد تنافسي. هذا الإخفاق يعكس نفسه بقوة في علاقات مصر بالصين، إذ أصبحت المشروعات التي تنفذها الشركات الصينية مصدرا لزيادة العجز في التمويل، كما أصبحت التجارة مصدرا لتفاقم العجز التجاري. ونظرا لأن عددا من مشاريع البنية الاساسية يتم تمويلها بواسطة الشركات المنفذة، فإن الديون المستحقة للشركات الصينية وغيرها تتراكم، الأمر الذي طرح حلولا قد تثير نزاعات في المستقبل، مثل الاستحواذ على حق الانتفاع لسنوات طويلة وإدارة المنشآت وصيانتها وتحصيل إيراداتها. وبالنسبة للعجز التجاري فإن صادرات مصر تغطي ما يتراوح بين 3% إلى 5% فقط من قيمة الواردات. ويستحوذ العجز التجاري مع الصين على ما يقرب من ثلث العجز التجاري الكلي لمصر. هذان التحديان، تحدي التمويل وتحدي التجارة، لا توجد حلول لهما في المدى القصير، لكن عدم المبادرة بوضع خطة دقيقة متوسطة الى طويلة المدى لعلاج كل منهما سوف يؤدي إلى تعقيد العلاقات بين البلدين.

في خمسينات القرن الماضي فتحت العلاقات مع الاتحاد السوفيتي آفاقا واسعة للتنمية من خلال بناء السد العالي، وتنفيذ برنامج طموح للتنمية الصناعية. لكن إدارة العلاقات المصرية – السوفيتية انتهت إلى ذروة درامية قبل التحول إلى المعسكر الغربي. تلك النهاية ترافقت مع طرد الخبراء العسكريين الروس، وأزمة تسوية الديون المستحقة على مصر (حوالي 1.3 مليار دولار) . ومع التحول إلى المعسكر الغربي، بدا وكأن السياسة الاقتصادية الجديدة، “الانفتاح الاقتصادي”، تمثل انتقاما من المشروعات الاقتصادية التي شاركت المساعدات السوفيتية في إنشائها. وزاد الاعتماد على صندوق النقد الدولي في تصميم السياسات الاقتصادية والتمويل، حتى دخلت مصر في مرحلة ركود اقتصادي طويلة، تفاقمت ملامحها، رغم كل محاولات الإنكار المعهودة، بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008. وبعد أن كانت مصر قد توقفت عن الاقتراض من الصندوق في تسعينات القرن الماضي، فإنها اضطرت للعودة إليه بعد ذلك. وكان قرض الـ 12 مليار دولار عام 2016 علامة جديدة على طريق استئناف العلاقات الممتدة بين الطرفين حتى الآن.
وقد زار مصر أخيرا لي تشيانغ، رئيس الوزراء الصيني، وهو رجل رصين صاحب تجربة طويلة في إدارة ومراقبة خطط التنمية، ومعه بان قونغ شنغ، محافظ بنك الشعب الصيني، وهو واحد من خريجي أكسفورد النابهين، ومعهما تشن شياو دونغ، رئيس الوكالة الصينية للتعاون الإنمائي الدولي، وهو رجل طموح يعرف كيف يدير مصالح الصين في الخارج. الزيارة كانت حدثا كبيرا، وليست مجرد رحلة بروتوكولية للإعداد لزيارة يقوم بها الرئيس الصيني فيما بعد. وقد تضمنت اتفاقيات مهمة لمبادلة الديون، وتجديد اتفاق مبادلة العملات (وربما زيادة قيمته وتوسيع نطاقه)، وإعداد خطة خمسية للتعاون بين البلدين حتى عام 2029 تتضمن مشروعات مبادلة الديون. الوفد الصيني جاء إلى مصر برؤية واضحة عما يريد، فهل كانت لدى المسئولين في القاهرة رؤية واضحة في المقابل؟
الصين تستطيع أن تقدم لمصر ما تريد، بشرط أن تعرف حكومتها ماذا تريد. وأيا كان، فإن لدى الصين ما تقدمه. الشركات الصينية، ومعها التركية، هي التي تقود عملية التصنيع في مصر حاليا. لكن ما تبنيه كل منهما من صناعات يكاد يكون منقطع الصلة بالصناعة المصرية (إلا في استثناءات محدودة)، لأنها ليست حلقة من حلقات سلاسل الإنتاج. من الضروري تنمية الصناعات المغذية في عدد من الصناعات القائدة. المسئولية الرئيسية في ذلك تقع على عاتق الحكومة، فهي – أو هكذا من المفترض- ترى إلى مسافة أبعد من قدميها، وليست مثل رجال الأعمال الذين لا يرون إلا تحت أقدامهم، أي مصالحهم الخاصة. في كل دولة تكون الحكومة هي رأس السياسة، وهي التي ترى إلى بعيد، وتشارك بنشاط، بلا مزاحمة لأحد، من أجل توفير الوقود، وسلامة القضبان، وانتظام الحركة لقاطرة للتنمية، لا أن تقوم هي بتأميم دور المجتمع والقطاع الخاص، معتقدة أنها يمكن أن تكون هي القاطرة، وأنها هي الأحق بالحصول على الأرباح. وأيا كان المعسكر الذي تنتمي إليه الحكومة، أو الحبال التي ترقص عليها، فإن دور السياسة هو العامل الحاسم الذي يقرر المستقبل. في سبعينات القرن الماضي قلت إن مشروع الانفتاح الاقتصادي في مصر هو “نهاية حلم التنمية المستقلة”. ومع ذلك فإن الصين تبنت مشروع الانفتاح بعد مصر بأربع سنوات، وجعلت منه نقطة انطلاق إلى ما هي فيه الآن. حققت الصين بمشروع الإنفتاح (وفق محركات مختلفة عن مصر) الخروج من عالم الفقر إلى عالم التقدم؛ لتصبح أكبر قوة صناعية وتجارية في العالم. الخيار الحقيقي في التنمية ليس القوالب والشعارات الشكلية، ولنا في الصين عبرة. تستطيع مصر تحقيق التقدم مع الصين وأمريكا على السواء، بشرط ألا تقع في المأساة السريلانكية أو في الملهاة الأرجنتينية.