ضد التيار: أمينة النقاش تتناول “الثورة المرفوضة”

من المشاهد السينمائية الرئيسية العميقة والمعبرة فى تاريخ السينما المصرية، التى تعكس ما كنا عليه، وما صرنا إليه، ذلك المشهد البديع الذى يجمع بين الصحفى البسيط الحال الشريف المبدأ، وبين رجل الأعمال صاحب النفوذ المالى القوى فى فيلم الغول، الذى كتبه وحيد حامد وأخرجه سيمر سيف عام 1983. يستدعى رجل الأعمال القوى النفوذ فهمى الكاشف” فريد شوقى “، الصحفى عادل عيسى “عادل إمام” لزيارته فى مكتبه، بعدما أدلى بشهادته أمام النيابة عن جريمة قتل متورط فيها نشأت الكاشف ابن رجل الأعمال .
فى المقابلة يسعى رجل الأعمال بالترغيب والإغراءات المالية والتهديد إلى إثناء الصحفى للعدول عن شهادته، فيبدأ فى مساومته، وينتهى بمحاولة رشوته لكى يسكت ويصمت نهائيا، حتى يتمكن فريق مستشاريه من كبار رجال القانون فى الدولة من غلق القضية وتبرئة ابنه من جريمة قتل مؤكدة . لكن الصحفى يرفض المساومة والرشوة لأن هناك جريمة” لازم حد يتحاسب عليها “. فيرد عليه الكاشف قائلا: حساب إيه اللى بتتكلم عنه، إحنا فى زمن اللى معاه قرش يساوى قرشين ويهدده رجل الأعمال بأنه سوف يدفع ثمن موقفه . ويقول له معلقا على رفضه:أنت فاكر الدنيا لسه فيها عدل يا استاذ، أنا باشتغل من زمان، ومصانعى من أكبر الشركات فى اقتصاد البلد، وكنت باكسب أيام الاشتراكية أكثر من دلوقت أيام الانفتاح، لأن الحكومة كانت عارفة بتاخد منى كام، وأنا عارف حاخد أيه . كان فيه نظام، دلوقتى كل حاجة بقت فوضى، كله بيدفع بس مش عارفين لمين !
تذكرت هذا المشهد الذى يفضح بمفارقته المدهشة، سردية شائعة تروج الآن لأسباب سياسية ولمصالح مالية استثمارية وعقارية، كذبا أن القطاع الخاص كان محاربا ومضهدا فى عهد عبد الناصر، الذى اشتكى فى خطب علنية من عزوف المسثمرين فى القطاع الخاص عن المشاركة فى خطط التنمية، وتهربه من مسئولياته الاجتماعية . تذكرته ونحن نستقبل العام الثالث والسبعين لثورة 23 يوليو، مدركة أنه وحده، قلب المصريين النابض ووجدانهم الصادق ووعيهم النابه، من سوف يستقبل هذه الأيام، عيد ثورة يوليو بامتنان تام وحسرة مماثلة .
أما الامتنان، فلعله امتثال لحكمة الزعيم الصينى “شوإن لاى ” القائلة “فلنتذكر من حفروا الآبار، عندما نرتوى من مائها”. أما الحسرة فممن يحشدون قواهم هذه الأيام فى مؤسسات الدولة وخارجها، وفى بعض وسائل إعلامها، لإهالة التراب على حقبة عبدالناصر، تعبيرا عن مصالحهم الاقتصادية والسياسية، وسعيا لكى تكون تلك المصالح هى القوة المنفردة والغالبة فى المجتمع، لكنهم لن يتمكنوا أيا كان نفوذهم السياسى والمالى، تجاهل حقائق تاريخية لا سبيل إلى إنكارها، وفى القلب منها، أن مصر لاتزال تقف على أقدامها حتى اليوم، بسبب التحولات الهيكلية الكبرى التى أحدثها نظام عبد الناصر فى المجتمع المصرى والعربى لمبادئه التى باتت نهجا لقوى التحرر الوطنى العالمية .
فقد أدت تلك التحولات على المستوى المحلى إلى تغيير اجتماعى غير مسبوق، انعكس على كل شىء المثُل والقيم الخلقية والسلوك والذوق العام، ووجد طريقه إلى الآداب والفنون والفكر السياسى والاجتماعى .
وبين تلك التحولات نشوء رأسمالية الدولة الوطنية، التى تدعمت بقرارات التأميم والاصلاح الزراعى، والتنظيمات التعاونية وانشاء المعهد القومى للتخطيط، وتأسيس القطاع العام واعتماد التخطيط سياسة لإدارة الاقتصاد الوطنى، لكى يحل تدريجيا محل اقتصاد السوق، ويقود بنجاح الخطة الخمسية الأولى، التى ارتبطت بالتوسع فى التعليم والتصنيع، وتحديث الجيش الوطنى بتنويع مصادر تسليحه، وبدء مشاريع للصناعات الحربية . وقد شهدت هذه المرحلة صعود الطبقة المتوسطة التى تصدرت معظم المواقع فى المشهدين السياسى والاقتصادى، وفى إدراة الجهاز البيروقراطى للدولة التنموية. كما شهدت المرحلة إنشاء جهاز تخطيط الأسعار لتحديد تطور الاستهلاك من السلع الأساسية والخدمات، بما يضمن توفرها لمحدودى الدخل.
وبسبب تلك الاجراءات التى تم اتخاذها لصالح الغالبية العظمى من الشعب المصرى، حتى ولو شابها بعض الأخطاء، فقد ارتبط المصريون والعرب وقوى التحرر العالمية بنظام عبد الناصر فى أوقات النصر والهزيمة، ارتباطا بمجموعة القيم والآمال والطموحت التى أرساها نظامه. من تشكيل جبهة شعبية عربية لتحرير المنطقة من الوجود الاستعمارى، ولتصبح جزءا من قوى التحرر الوطنى العالمية المعادية للاستعمار، ورفض سياسة الأحلاف والقواعد العسكرية، الغربية، وتشجيع بناء جيوش وطنية، وخطط للتنمية الاقتصادية والاجتماعية تعتمد على الجهود الذاتية وتمتلك من القدرات ما يحمى قرارها السياسى المستقل، ويسيطر على اقتصادها، بعيدا عن الدور الذى يلعبه صندوق النقد الدولى فى عرقلة جهود التنمية المستقلة والتقدم الاجتماعى للدول الفقيرة، بالشروط التى يمليها على تلك الدول، وتنتهى بإلغاء الدعم الحكومى، والتخفيض المتوالى للعملة الوطنية، وخفض الانفاق الحكومى على خدمات التعليم والصحة والسكن، وتصفية الصناعات العاجزة عن المنافسة الدولية، وفتح الاستيراد بلا قيود . فضلا عن اعتماد سياسة الحياد الإيجابى أثناء الحرب الباردة، بين القوتين الكبيريتين المتنافستين على قيادة العالم.
فى رثاء عبد الناصر قال محمد مهدى الجواهرى :أكبرتُ يومك أن يكون رثاءً، فالخالدون عهدتُهم أحياءً، لايعصم المجد الرجال وإنما، كان العظيمُ المجدَ والأخطاءَ.ولو عاد الجواهرى إلى الحياة الآن لهاله أحوالها، بعدما غاب عنها المجد وتصدرت الأخطاء كل المشاهد، وصارت تحكم بقانون فهمى الكاشف.!