ستارمر والاختبار الحاسم: حزب العمال البريطاني بين الاستمرارية وصعود التيارات الشعبوية

ستارمر والاختبار الحاسم: حزب العمال البريطاني بين الاستمرارية وصعود التيارات الشعبوية

قبل عام مضى، وقف كير ستارمر في حديقة داونينغ ستريت تحت شمس الصيف الحارقة، بعد أسابيع قليلة من فوزه التاريخي بأغلبية ساحقة، محذرًا البريطانيين بواقعية صادمة: «الأمور ستزداد سوءًا قبل أن تتحسن». كانت تلك اللحظة تتويجًا لمسيرة رجل قانوني هادئ نجح في إزاحة حكومة حزب المحافظين التي انهكتها الصراعات الداخلية والفضائح، لكنها أيضًا كانت لحظة كشفت عن نبرة سياسية ستلازمه لاحقًا: نبرة التحذير والتقشف عوضًا عن الخطاب المطلوب ليبث الإلهام والطموح.

اليوم، وبعد عام كامل في السلطة، لا يزال الناخبون ونواب حزب العمال بانتظار تلك «التحسّنات» الموعودة وسط مشكلات تتراكم وضغوط داخلية وخارجية تهدد ليس فقط حكومة ستارمر، بل أيضًا مستقبل تيار يسار الوسط الغربي برمته (تيار السياسة الرسمية في أوروبا منذ الحرب الباردة)، إذ يخوض تجربته الأخيرة في الحكم قبل أن يطيح به المد الشعبوي اليميني الذي بات واقعًا سياسيًا أوروبيًا.

أزمة الرعاية الاجتماعية

من بين جميع الأزمات التي واجهتها حكومة ستارمر في عامها الأول، برزت أزمة إصلاح نظام الرعاية الاجتماعية باعتبارها نقطة التحول الأخطر. فقد أعلنت الحكومة خطتها لإجراء تعديلات جذرية على قواعد استحقاق الإعانات الاجتماعية، شملت إلزام مستفيدي الإعاقات القادرين على العمل بقبول وظائف أو التدريب الإجباري وإلا سيتعرضون لخفض إعاناتهم أو وقفها. استند ستارمر وفريقه إلى خطاب اقتصادي يقول إن «دعم غير القادرين يجب ألا يتحول إلى إعالة دائمة للقادرين»، وهو خطاب بدا للكثيرين قريبًا من نبرة المحافظين التقليدية.

لكن الخطة قوبلت بغضب عارم داخل حزب العمال نفسه. فقد رأى العديد من نواب الحزب، خاصة أولئك القادمين من دوائر فقيرة، أن المشروع يمثل خيانة واضحة لمبادئ العدالة الاجتماعية التي قام عليها الحزب منذ نشأته، واعتبروه عودة إلى سياسات التقشف النيوليبرالية التي دمرت حياة ملايين البريطانيين في عهد المحافظين. وهددت كتلة كبيرة بالتصويت ضد الخطة في البرلمان، فيما وصفها بعضهم بأنها “وصمة عار أخلاقية وسياسية”.

تحت ضغط التمرد النيابي، اضطر ستارمر إلى التراجع عن أجزاء رئيسية من المشروع، معلنًا تعديل بنود الإلزام القسري وتوسيع برامج التدريب والدعم المادي للمستفيدين، في أول اختبار صعب لنفوذه داخل الحزب. ورغم محاولة فريقه الترويج للتعديلات باعتبارها «تصحيحًا منطقيًا»، فإن الضرر كان قد حدث بالفعل. فقد قال أحد النواب المتمردين عن العمال: “هناك الآن نواة جديدة من النواب الذين سيبقون دائمًا أو غالبًا في خانة التمرد. لقد صبروا كثيرًا والآن بدأوا يتساءلون: أهذه هي الحكومة التي انتخبناها؟”.

هذا التمرد النيابي فتح الباب أمام أزمات قيادية أوسع. إذ حذر غافين بارويل، كبير موظفي رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي، من أن “استجابة الحكومة لهذا الضغط ستشجع مزيدًا من التمرد مستقبلًا. حين يظن النواب أن الحكومة يمكن دفعها للتراجع، سيحاولون ذلك مرارًا، ولا يمكن التراجع عن هذه النقطة النفسية في إدارة الحكم”.

ويرى مراقبون أن هذه الأزمة عكست مأزقًا أعمق لدى حكومة ستارمر: غياب مشروع اجتماعي جذري قادر على توحيد الحزب والناخبين خلفه. فهي تتبنى خطاب الكفاءة المالية والإنفاق المنضبط دون أن تقدم بديلًا مقنعًا يعالج جذور أزمة التفاوت الاجتماعي التي عمقتها حكومات المحافظين.

ملف الهجرة واليمين الشعبوي

بينما يواجه ستارمر تمردًا داخليًا، يلوح في الأفق خطر أكبر متمثل في صعود اليمين الشعبوي بزعامة نايجل فاراج. إذ لم يعد حزب الإصلاح بقيادة فاراج مجرد لاعب هامشي، بل بات خصمًا رئيسيًا للعمال، خاصة بعد نتائجه الجيدة في الانتخابات المحلية الأخيرة، حيث حصد أصواتًا غاضبة من تراجع الخدمات واستمرار أزمة الهجرة.

يتركز القلق في دوائر العمال على ملف الهجرة غير النظامية، إذ لم تظهر حتى الآن أي مؤشرات لنجاح حكومي في وقف تدفق قوارب المهاجرين عبر القنال الإنجليزي أو الحد من الاعتماد المكلف سياسيًا واجتماعيًا على الفنادق لإيواء طالبي اللجوء. وقال أحد نواب الحزب: “قوارب المهاجرين هي القضية الكبيرة التي لم نحرز فيها أي تقدم سريع. الناخبون يشعرون أننا مثل المحافظين: نكتفي بالتصريحات دون حلول”.

ويدرك ستارمر أن فشله في هذا الملف قد يعيد رسم الخريطة السياسية البريطانية، تمامًا كما حدث في فرنسا وهولندا وإيطاليا، حيث أطاحت الخطابات الشعبوية والأجندات المناهضة للهجرة بأحزاب يسار الوسط وأعادت اليمين إلى الحكم بأغلبية مريحة. ولهذا طرح مقاربة «تعاونية ذكية»، تعتمد على تعزيز التعاون الأمني والاستخباراتي مع أوروبا والإنتربول، بدلًا من الحلول العسكرية أو الجدران العازلة. لكن حتى هذه اللحظة، تبدو النتائج هزيلة أمام توقعات الشارع.

وفي الوقت ذاته، يواجه ستارمر ضغوطًا شعبية وسياسية من زاوية أخرى تمامًا. فقد ارتفعت مؤخرًا مستويات الغضب الشعبي إلى حدود غير مسبوقة. يقول لوك ترايل من مركز More in Common”مستويات الغضب في الشارع البريطاني غير صحية إطلاقًا. إنها أعلى بكثير مما نتصور. الناس فقدوا الثقة ويريدون حلولًا فورية وبسيطة، واليمين الشعبوي يجيد تقديم ذلك”.

ويؤكد قيادي بحزب العمال بريندون فاورز: “لقد فزنا لأن الناخبين كانوا غاضبين من المحافظين. حصلنا على فترة سماح قصيرة، لكنها انتهت بسرعة. غضبهم انتقل نحونا الآن”.

فرصة البقاء الأخيرة لتيار يسار الوسط الغربي

رغم الانشغال الكبير بالملفات الداخلية، لا يزال ستارمر يحتفظ بملف السياسة الخارجية بيده مباشرة، وخاصة العلاقات مع أوروبا وإدارة الدعم لأوكرانيا في حربها ضد روسيا. ويُنظر إليه هنا بوصفه رجل الدولة القادر على إعادة بريطانيا إلى دورها الدولي بعد عزلة البريكست والاضطراب المحافظ، إذ حافظ على زخم الدعم الأوروبي لأوكرانيا وأدار العلاقة المعقدة مع إدارة ترامب  بحذر محسوب. لكنه بذلك يستهلك جزءًا معتبرًا من وقته وموارد حكومته بعيدًا عن أزمات الداخل التي تحتاج حضوره القيادي المباشر.

في المقابل، يواجه ستارمر ضغوطًا متصاعدة من داخل حزبه لاتخاذ موقف أكثر صرامة تجاه إسرائيل في حربها على غزة، وهي قضية محورية تهدد مصير نوابه في الدوائر ذات الكتل المسلمة واليسارية. ويقول أحد النواب: “كير متأخر دائمًا في هذه القضية. الناخبون يريدون موقفًا أخلاقيًا واضحًا”.

غير أن الأخطر من كل هذه الملفات هو السؤال الوجودي الذي يلاحق حكومة حزب العمال اليوم: هل يستطيع حزب عمالي يحكم وفق سياسات وسطية معتدلة، تجمع الكفاءة المالية والعدالة الاجتماعية، أن يثبت للناخبين أنه بديل حقيقي أمام المد الشعبوي؟ أم أن إخفاقه، إذا وقع، سيكون المسمار الأخير في نعش تيار يسار الوسط الغربي، الذي خسر معاقله التقليدية في فرنسا وإيطاليا وهولندا ويصارع من أجل البقاء في ألمانيا وإسبانيا؟

ستارمر نفسه أقر مؤخرًا بأن تحذيره الصارم العام الماضي «أفرغ الأمل من نفوس الناس»، مضيفًا: «كنا حريصين جدًا على إظهار سوء الوضع لدرجة نسينا أن الناس يريدون شيئًا يتطلعون إليه أيضًا».

لكن السؤال الذي طرحه أحد وزراء العمال السابقين يظل بلا إجابة واضحة حتى الآن: “إذا طلبت من ستارمر كتابة ثلاث إنجازات سيتذكره الناس بها بعد خمسين عامًا، أشك أنه سيتمكن من ذلك”.

تجربة حزب العمال اليوم ليست مجرد اختبار لحكومة أو حزب. إنها الفرصة الأخيرة ليسار الوسط الأوروبي كي يثبت بقاءه وفاعليته أمام يمين شعبوي لا يعرف التراجع ولا يعترف بالتعقيدات، بل يقدم للناخبين إجابات مبسطة لكنها جذابة وخطيرة في آن واحد.

إذا أخفق ستارمر وحزب العمال في تحويل وعودهم إلى واقع ملموس خلال العامين المقبلين، فإن النتيجة لن تكون مجرد سقوط حكومة أو حزب تاريخي، بل قد تمثل لحظة انعطاف حاسمة لصالح اليمين الشعبوي البريطاني، ممثلًا في حزب «Reform UK» بقيادة نايجل فاراج. فهذا الحزب، الذي نجح بالفعل في اختراق الدوائر التقليدية للعمال في الانتخابات المحلية الأخيرة، يقدم سردية بسيطة وجذابة لقطاعات غاضبة ومرتبكة من الناخبين البريطانيين، تتلخص في تحميل الهجرة والنخب السياسية والبيروقراطية مسئولية كل الأزمات. ومع تضاؤل صبر الناخبين على حكومة العمال، فإن احتمالات صعود اليمين الشعبوي تبدو أكثر واقعية وخطورة، بما ينذر بإعادة تشكيل المشهد السياسي البريطاني على غرار ما حدث في فرنسا وإيطاليا وهولندا، حين أطاح اليمين الشعبوي ليس فقط بخصومه المباشرين بل أيضًا بآخر معاقل يسار الوسط في تلك البلدان.

وإذا كانت تجربة ستارمر اليوم تمثل الفرصة الأخيرة ليسار الوسط البريطاني، فإن مشهد أوروبا لا يبعث على الاطمئنان كذلك. ففي فرنسا، يواجه إيمانويل ماكرون – الذي اعتبره كثيرون ممثل تيار الوسط التكنوقراطي في أوروبا – نهاية وشيكة لمسيرته السياسية بعد الهزائم المتوالية أمام اليمين المتطرف بقيادة مارين لوبان من جهة ومن اليسار من جهة ممثلًا في تحالف الجبهة الشعبية. إذ لم يعد ماكرون قادرًا على تقديم نفسه كحائط صد أمام الشعبوية، بعدما تآكلت شعبيته بفعل سياسات اقتصادية رأى فيها الفرنسيون استمرارًا للنيوليبرالية المعادية للعدالة الاجتماعية.