مخالفًا للمألوف: أمينة النقاش تناقش التشريع بأساليب غير تقليدية

مخالفًا للمألوف: أمينة النقاش تناقش التشريع بأساليب غير تقليدية

كانت جلسة مجلس النواب التي أقرت قانون العلاقة الايجارية القديمة في السكن والاماكن التجارية نموذجا يدرس في سلق القوانين وتمريرها للخديعة ولعبة الثلاث ورقات الشهيرة, التي تقامر وتضلل, بالتوصل لاعلي المكاسب في اليوم السابق عليها, أعلن رئيس البرلمان أن الحكومة لم تقم بالواجب عليها ولم تمد البرلمان بالاحصاءات اللازمة والمعلومات المطلوبة بشأن عدد المستأجرين الاصليين وأوضاعهم. ونوه كذلك بعدم الاستعداد الكافي للمشروعات التي تتقدم بها الحكومة بشكل متكرر, وانه بات نمطا ثابتا أن يؤجل البرلمان مشروعات قوانين, بسبب نقص الدراسات والبيانات اللازمة من قبل الحكومة, واصفا ذلك بالخلل الهيكلي في الاداء التنفيذي وبافتقاد الكفاءة اللازمة, ومحذرا أن تلك أمور لا يمكن السكوت عليها.

بعد ثورة رئيس البرلمان علي الحكومة, ظن كثيرون أن مشروع الحكومة بقانون الايجار القديم لن يمر أو علي أسوأ تقدير, سوف يؤجل لدورة البرلمان القادمة. ثم فوجئ الجميع بالموافقة علي مشروع القانون بالجلسة في اليوم التالي مباشرة, من غير أن تفي بما دعاها رئيس المجلس الي الالتزام به, فضلا عن التضارب في المعلومات والارقام التي تنشر نقلا عن مؤسسات الدولة في شأن عدد المخاطبين المعنيين في نصوص المشروع.

وحق علي هذا المشهد صفة المسرحية الهزلية كما قال رئيس الهيئة البرلمانية في حزب التجمع “عاطف مغاوري”. كما يحق عليه, قول عنترة بن شداد “اعاتب دهرا لا يلين العاتب, واطلب امنا من صروف النوائب (المصائب) . وتوعدني الأيام وعدا تغرني , واعلم حقا انه وعد كاذب”.

حمل المتابعون للنقاش النيابي, رئيس مجلس النواب مسئولية تضليل الرأي العام بخطابه, ثم الموافقة السريعة علي القانون. ولأنني من المعجبين بالمستشار حنفي الجبالي رئيس المجلس, بسبب لا علاقة له بالقانون, وقد يجلب لك بعض الضحك من تلك الاجواء القاتمة, هو بلاغته واتقانه البديع في اللغة العربية الفصحي واحترامه لها. ولا أظن انه كان طرفا في ذلك المشهد الهزلي, بل كان صادقا فيما قاله, لاسيما أن مضمون النقد الموجه للحكومة هو كان صلب القضية. والأرجح أن قوي الضغط السياسي العاتية , والاحتكارات العقارية ذات النفوذ السياسي داخل المجلس ووسط السلطة التنفيذية, قد حاصرته, وتمكنت من تغليب رأيها  دون دراسة, وبخلط في الأوراق وتزوير في المعلومات والارقام, نجحت في تمرير القانون بلعبة البيض والحجر القائمة علي مهارة الغش والمراوغة والكذب وأساليب الوهم والايحاء.

يروي لنا تاريخ العمل البرلماني في مصر واقعة تعد عبرة لمن يريد أن يعتبر. في اعقاب هزيمة الثورة العرابية, واحتلال الانجليز لمصر تم الغاء دستور 1882 وتصفية مجلس نوابه. ومع نهاية عام 1883 تم انشاء قانون نظامي جديد شكل بموجبه مجلس شوري القوانين, وظيفته استشارية بشأن مناقشة القوانين والميزانية, مؤلفا من 30 عضوا  والجمعية العمومية مؤلفة من الثلاثين عضوا السابقين بجانب الوزراء و46 عضوا منتخبا ووظيفتها استشارية كذلك, إلا فيما يخص فرض ضرائب جديدة.

وفي عام 1910 قرر مستشار المال البريطاني ومعه حكومة الخديوي عباس حلمي الثاني العمل علي مد امتياز شركة قناة السويس اربعين عاما أخري, حيث ينتهي امتيازها في العام 2008 بدلا من عام 1968, في مقابل منح الحكومة المصرية نسبة من الارباح وحصولها علي 4 ملايين جنيه. لكن محمد فريد زعيم الحزب الوطني هاجم اقتراح المجلس وحشد المصريين خلفه للتنديد به, باعتبارها يمدد في أجل الاحتلال البريطاني  والاستبداد الحكومي. وتحت وطأة ضغوط معارضة المصريين قامت الحكومة بخطوتين هامتين لتهدئة الرأي العام, الأولي طرح مشروع المد علي الجمعية العمومية, والثانية فوضتها في القبول به أو رفضه, فكان أن اصدرت قرارها برفض المشروع.

يقول المستشار طارق البشري في كتابه “دراسات في الديمقراطية” الصادر عن دار الشروق عام 1987 أن احد اسباب اغتيال ابراهيم الورداني لرئيس الوزراء المصري بطرس غالي هو موافقته علي مشروع مد الامتياز. كان الورداني صيدليا شابا, وعضوا في الحزب الوطني. وعكس هذا الحادث مدي الغضب الشعبي علي تلك السياسات. ويؤكد البشري أن هذا الحادث شكل بداية لموجة العنف والاغتيالات السياسية حتي ثورة 1919 وفي الأعوام التالية. ولم تكن تلك الموجات بعيدة عن تأييد الأحزاب القائمة. ويفسر ظاهرة العنف في سلوك المعارضة الوطنية لأنها تبرز في الفترات التي يختل فيها التناسب بين حجم المعارضة, وبين محدودية تمثيلها داخل المؤسسات الرسمية, وضعف تأثيرها علي ما تتخذه الدولة من قرارات.  ويفسر البشري ما يود قوله في أن ما يكسب الهيئات النيابية سلطتها إزاء الأجهزة التنفيذية المسيطرة علي وسائل العنف, هي ما تتمتع به السلطة النيابية من روابط موصولة بالرأي العام الذي يستمد قوته من الأحزاب والنقابات والمنظمات والاتحادات الجماهيرية المنتمي إليها. مما سبق وصفه للضمانات الحقيقية, لكي لا يسرح العنف المجتمعي دون رابط أو ضابط, فأنصتوا جيدا لأنين الرأي العام.