زهران ممداني… القوة المفاجئة لليسار الأمريكي في نيويورك

في مشهد سياسي أمريكي اعتاد على مفاجآت انتخابية جزئية محدودة الأثر، جاء فوز زهران ممداني بترشيح الحزب الديمقراطي لانتخابات عمدة نيويورك كأحد أبرز المؤشرات على تحولات اجتماعية وسياسية عميقة تتجاوز حدود المدينة الأكبر في الولايات المتحدة. فرغم أن ممداني لم يصبح بعد عمدة نيويورك، إلا أن صعوده يطرح أسئلة جوهرية حول مستقبل اليسار الأمريكي، وحدود قدرته على التحول من حالة الاحتجاج الدائم إلى ممارسة الحكم وإنتاج بدائل مقنعة في ظل صعود اليمين الشعبوي.
صعود ممداني
يمثل ممداني جيلًا سياسيًا جديدًا، من حيث العمر والخلفية والأدوات. فهو ابن المخرجة العالمية ميرا ناير وعالم السياسة الأوغندي الهندي محمود ممداني، نشأ في بيئة متعددة الثقافات والهويات، ويمتلك حضورًا اجتماعيًا سلسًا أكسبه شعبية واضحة بين قطاعات واسعة من الشباب والمهاجرين. لكن صعوده الأخير ليس وليد شخصيته أو خلفيته الثقافية فقط، بل ثمرة عمل ميداني شعبي منظم، إذ طرقت حملته الانتخابية مليونًا ونصف باب في نيويورك، وهو رقم هائل حتى بمقاييس الحملات البلدية الأمريكية.
تقدم حملة ممداني مثالًا مختلفًا عن الحملات اليسارية الأمريكية التقليدية. فهي لم تكتف بالشعارات الكبرى أو النقد الأخلاقي للرأسمالية، بل صاغت برنامجًا محددًا ذا طابع اشتراكي إصلاحي مباشر: حافلات مجانية، حضانات مجانية، إنشاء متاجر بقالة تديرها المدينة في المناطق المحرومة غذائيًا، وتجميد الإيجارات في الشقق ذات الإيجار الثابت. ومع أن بعض خصومه وصفوا هذه السياسات بأنها حالمة أو غير واقعية، فإنها لامست جوهر الأزمة اليومية لسكان نيويورك: القدرة على البقاء وسط مدينة تلتهم الطبقة الوسطى والفقيرة معًا بارتفاع تكاليف المعيشة دون توقف.
الاشتراكية الممكنة
لا يمكن فهم دلالة فوز ممداني دون النظر إلى طبيعة خصمه أندرو كومو، الحاكم السابق للولاية وصاحب الحضور السياسي والإعلامي الكبير، الذي خاض حملته معتمدًا على دعم المليارديرات ولجنة عمل سياسي أنفقت 25 مليون دولار لصالحه، فضلًا عن شبكات نفوذه الممتدة في الحزب الديمقراطي. إلا أن كومو، رغم كل ذلك، خسر أمام مرشح شاب بلا موارد مالية تذكر نسبيًا، لكنه اعتمد على بناء قاعدة جماهيرية نشطة وبرنامج سياسي واضح وخطاب قريب من الناس. وهي معادلة تذكرنا بظاهرة بيرني ساندرز، وإن كانت هذه المرة على المستوى البلدي لا القومي.
ورغم أهمية هذا الانتصار لليسار الأمريكي، إلا أنه يكشف كذلك عن حدود تجربته. فمنذ أوباما، لم ينجح الحزب الديمقراطي في تجديد نفسه بنيويًا أو إنتاج نخب سياسية جديدة تملك قاعدة اجتماعية مستقرة. فمرشحوه الرئاسيون الثلاثة السابقون كانوا وزيرة خارجية أوباما، ثم نائبه، ثم نائب نائبه، بينما يشيخ الكونغرس ويخسر أصواتًا بسبب وفاة أعضائه دون تجديد سريع. في هذا السياق، يمثل ممداني محاولة نادرة لخلق مسار سياسي جديد من أسفل لأعلى، لكن نجاحه في تحقيق تغيير ملموس يظل رهينًا بتوازنات أكبر من نيويورك وحدها.
ومن المهم الإشارة هنا أننا نتحدث عن اليسار الأمريكي المعاصر الذي يختلف جذريًا عن اليسار الاشتراكي التقليدي، فهو لا يطرح مشروعًا ثوريًا لقلب النظام الرأسمالي بل يسعى لإصلاحه من الداخل عبر سياسات توزيع محدودة. كما أنه يركز على قضايا الهوية والعدالة الثقافية بقدر تركيزه على العدالة الاقتصادية، في محاولة لبناء تحالفات متعددة الأعراق والهويات. إنه يسار براغماتي بقدر ما هو أخلاقي، يحاول التكيف مع بنية النظام الأمريكي بدلًا من مواجهته جذريًا.
اليسار الأمريكي في عصر ترامب
يأتي صعود ممداني في لحظة تتسم بتصاعد الشعبوية الترامبية التي أعادت تعريف اليمين الأمريكي. فترامب الذي بلغ التاسعة والسبعين، بعد فترتي رئاسة، لم يعد يقدم نفسه بصفته هذا الرجل الذي يتحدث بشعبوية في الملف الاقتصادي، بل تحول إلى يميني تقليدي، فأطلق العنان لسياسات وصفت بالأكثر تطرفًا وخاض مواجهة عسكرية ضد إيران بضغط من حلفائه الإسرائيليين والصقور في واشنطن، وأعاد تقديم سياسات اقتصادية تزيد الإعفاءات الضريبية للأثرياء على حساب الطبقات الوسطى والفقيرة، دون أن يتراجع عن خطابه القومي المتشدد. لقد أسهم فشل الديمقراطيين في تقديم بدائل مقنعة للجماهير في إعادة إنتاج هذه الشعبوية من جديد، بعد أن فقدت زخمها مؤقتًا عقب هزيمة ترامب الأولى.
لكن السؤال الأكبر هو: هل يشكل صعود ممداني لحظة انعطاف جدية لليسار الأمريكي؟ التجارب السابقة تجعل الإجابة حذرة. ففي شيكاغو، واجه العمدة براندون جونسون أزمات مالية خانقة وتراجعًا في شعبيته بعد أقل من عامين. أما في سان فرانسيسكو، انتهت تجربة المدعي العام التقدمي تشيسا بودين بعزله في استفتاء شعبي شكل ضربة معنوية قوية لليسار الأمريكي. وحدها تجربة ميشيل وو في بوسطن تقدم نموذجًا نسبيًا على نجاح اليسار البراغماتي، عبر الجمع بين العدالة الاجتماعية والكفاءة التنفيذية.
أما في حالة ممداني، فإن ما يميزه هو محاولته الجمع بين خطاب اشتراكي مبدئي وبرنامج إصلاحي براغماتي. فهو لا يطرح شعارات التأميم الشامل أو قلب النظام الرأسمالي، بل يبدأ بمشاريع صغيرة قابلة للتطبيق، مثل إنشاء خمسة متاجر بقالة تديرها المدينة تجريبيًا في مناطق محرومة غذائيًا، أو تخفيف البيروقراطية على المشاريع الصغيرة. هذا التوازن بين الراديكالية الأخلاقية والبراغماتية التنفيذية قد يمنحه فرصة أوسع لتحقيق نتائج ملموسة مقارنة بتجارب سابقة.
في المقابل، يواجه اليسار الأمريكي تحديًا استراتيجيًا أوسع من مجرد الفوز بالمقاعد البلدية أو البرلمانية، يتمثل في كيفية بناء سردية وطنية مقنعة تواجه الشعبوية الترامبية على أرضية اقتصادية واجتماعية واضحة، دون الاكتفاء بخطاب أخلاقي أو ثقافي لا يلامس أولويات الناخبين اليومية. لقد نجح ترامب مرتين لأن خصومه ركزوا على شخصه لا على بنية النظام الذي مكّنه. وإذا أراد اليسار الأمريكي استعادة زمام المبادرة، فعليه تقديم بدائل ملموسة لأزمة القدرة على تحمل تكاليف المعيشة التي باتت القضية الأولى للطبقات الوسطى والفقيرة.
ربما لن يصبح زهران ممداني عمدة نيويورك بعد انتخابات نوفمبر المقبلة، إذ يظل العمدة الحالي إريك آدامز مرشحًا قويًا، بينما يدخل الجمهوري كيرتس سليوا السباق من بوابة الشعبوية والتركيز على القضايا الأمنية. لكن حتى لو خسر، يظل ممداني نموذجًا دالًا على ملامح جيل سياسي أمريكي جديد، يرى الاشتراكية أكثر من شعار أيديولوجي مجرد، بل كوسيلة لإنقاذ المدن من أزماتها البنيوية وإعادة توزيع الثروة والفرص بشكل عادل. ويبقى السؤال معلقًا: هل يمتلك هذا الجيل القدرة على تجاوز سقف البلديات إلى مستوى السلطة الفيدرالية؟ أم ستظل الاشتراكية الأمريكية محصورة في مدن الساحل التقدمي دون أن تمس قلب النظام الرأسمالي الإمبراطوري؟
الفوز المحتمل
إذا نجح زهران ممداني في الوصول إلى منصب عمدة نيويورك في انتخابات نوفمبر المقبلة، فإن هذا الفوز سيمثل لحظة انعطاف رمزية وعملية في آن واحد لليسار الأمريكي بأسره. فمن الناحية الرمزية، سيكون انتخاب شاب مسلم مهاجر الهوية والوعي، اشتراكي التوجه، لإدارة أكبر مدينة أمريكية – العاصمة الاقتصادية والثقافية للبلاد – إعلانًا صارخًا عن قدرة اليسار على الانتقال من الهامش الاحتجاجي إلى قلب السلطة الحضرية، ويؤشر إلى انكسار سقف الزجاج السياسي والاجتماعي الذي لطالما حكم فرص السياسيين التقدميين من أبناء المهاجرين. أما عمليًا، فإن فوزه سيضعه في اختبار فوري وحاسم أمام تحالفات المصالح المالية والعقارية والأمنية التي تتحكم في نيويورك منذ عقود، ليثبت قدرة الاشتراكية الإصلاحية على تحويل وعودها إلى سياسات عامة قابلة للحياة. فمشروعاته المقترحة مثل تجميد الإيجارات، والحافلات المجانية، والمتاجر البلدية، ستصطدم عاجلًا بعقبات تمويلية وتشريعية وبيروقراطية، فضلًا عن المعارضة المنظمة من لوبيات المال والعقارات، ما سيجبره على الجمع بين الصلابة المبدئية والمرونة التنفيذية في إدارة الحكم.
كما أن فوز ممداني سيعيد تعريف النقاش الداخلي الأمريكي حول الحزب الديمقراطي ومستقبله، إذ سيجدد الأسئلة حول حدود سياسات الوسط التوافقي، ويفتح الباب واسعًا أمام مرشحين يساريين في مدن كبرى أخرى. بل إن فوزه قد ينعش تيارًا يساريًا قومي النزعة يتحدى بنية الحزب الديمقراطي التقليدية التي تفضل الاعتدال النيوليبرالي. غير أن الأخطر بالنسبة لمستقبل الولايات المتحدة هو أن نجاحه قد يستفز تحالف اليمين الشعبوي الترامبي ويعيد تعبئته بخطابات الكراهية والخوف من اليسار “المسلم الراديكالي”، مما قد يجعل ممداني هدفًا مركزيًا في الانتخابات الرئاسية المقبلة وخطاب التعبئة اليميني عامة. ومع ذلك، فإن مجرد وصوله إلى هذا المنصب، حتى لو واجه إخفاقات لاحقة، سيمنح اليسار الأمريكي درسًا حاسمًا: أن الاستثمار في العمل الميداني وبناء القواعد الشعبية وصياغة برامج ملموسة هو السبيل الوحيد لاختراق حصون السلطة الأمريكية، ولو من بوابة البلديات، في انتظار لحظة الصدام الكبرى مع قلب النظام الفيدرالي ذاته.