التغيير القانوني في مصر: فرصة لا تزال قائمة

اتبعت مصر آليات متعددة في سبيل الاصلاح التشريعي وتطوير النظامين القانوني والقضائي منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر، والتي بدأت بالتفكير في إصلاح القضاء الوطني وتنظيمه علي غرار القضاء المختلط، فتألفت في أواخر عام 1880 لجنة لوضع لائحة لمحاكم وطنية نظامية والتي صدرت بالفعل عام 1881م. أعقبها صدور التقنين المدني الوطني عام 1882، والذي اعتبره الدكتور عبد الرازق السنهوري بداية لتطور المدنية وتطور لفن التقنين في مصر.
واستمر الاجتهاد في البحث عن مزيد من الإصلاح القانوني والقضائي، فأثناء الحرب العالمية الأولى، تشكلت لجنة للنظر في إلغاء الامتيازات الأجنية، وكان من بين مقترحاتها تنقيح التقنين المدني، لكن ظروف الحرب منعت تلك المحاولة، إلا أن صدور دستور 1923 بما أحدثه من تطور دستوري، فرض معه مراجعة كافة القوانين لتتناسب مع تطور النص الدستوري وتطور المجتمع ذاته.
وقد أعلن وزير الحقانية عام 1933 عن ضرورة مراجعة كافة القوانين التي وضعت عند إنشاء المحاكم الأهلية، وتعديلها “لتضاهي كافة القوانين في البلاد المتمدينة”، إلا أن هذه الضرورة بدأت عمليًا مع مقترح وزارة الحقانية عام 1936، والذي تقدمت به لمجلس الوزراء، ونوهت فيه عن تخلف القوانين المدنية والتجارية عن مسايرة التقدم الاجتماعي، فصدر قرار مجلس الوزراء بتشكيل لجنتين، إحداهما لتعديل التقنين المدني والتجاري والمرافعات، والأخرى لتعديل التقنين الجنائي والإجراءات الجنائية، وقد استمرت أعمال هذه اللجان لمدة اثنتي عشر عامًا صدر خلالها العديد من القوانين الهامة في تاريخ التشريعات المصرية أهمها القانون المدني، والمرافعات، والإجراءات الجنائية.
ومع قيام ثورة يوليو 1952، ووقف العمل بالدستور وإلغاء النظام الملكي، تشكلت عام 1956 لجنة “مراجعة وتبديل القوانين” لتتناسب مع توجهات النظام الجمهوري، ولإعادة النظر في القوانين السارية لتواكب التغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي فرضت نفسها انطلاقًا من أهداف ثورة يوليو.
كما ظهر مفهوم “الاصلاح التشريعي” في سبعينيات القرن الماضي بشكل أكثر وضوحًا، مرة مع التحول الاقتصادي التي شهدته مصر فيما يتعلق بالقوانين الاقتصادية، ومرة أخرى بلجنة مراجعة التشريعات عام 1978 والتي شكلها مجلس الشعب ودعمتها تنظيمات الجماعات الدينية بدعوى مخالفة القوانين للشريعة، كما تم إعادة طرح “المصطلح” عام 1991 مع التوجه نحو التوسع في سياسات الخصخصة والتي تتطلب إصلاح التشريعات الاقتصادية لتتناسب مع هذا التوجه، فالهدف من الإصلاح التشريعي مرتبط بالتوجهات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية التي تسعى الدول لترسيخها وتحقيقها في مجتمعاتها .
وقد حظيت مسألة إصلاح التشريعات بعد ثورة 25 يناير 2011 بأهمية قصوى، باعتبارها أحد أهم المطالب السياسية والشعبية لتغيير القوانين ذات الطبيعة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتي نتج عنها أوضاع عامة كانت ضمن أهم الأسباب المؤدية للثورة، إلا أن حالة عدم استقرار مؤسسات الدولة وضعف سلطاتها واستئثار تنظيم الإخوان وحلفائه بالمجالس النيابية ووصولهم لمقعد الرئاسة خلال “عام الردة”، قد أدى لتراجع المطالبة بهذا الإصلاح لفقدان الثقة في سلطة تنظيمات التيارات الدينية، والتي لا تعترف بأهمية الإصلاح التشريعي إلا فيما يعتقدوا هم بأنه مخالف للمرجعية الفقهية ذات الطابع الديني.
الإصلاح التشريعي وثورة 30 يونيو
بعد ثورة الثلاثين من يونيو 2013 ، أصدر الرئيس عبد الفتاح السيسي القرار رقم 187 لسنة 2014 بتشكيل اللجنة العليا للإصلاح التشريعي برئاسة رئيس مجلس الوزراء وعضوية كل من وزير شئون مجلس النواب ووزير العدل ورئيس مجلس الدولة ومفتي الجمهورية ووكيل الأزهر ورئيس هيئة مستشاري مجلس الوزراء ورئيس قسم التشريع بمجلس الدولة ومساعد وزير العدل لشئون التشريع وثلاثة من أساتذة كليات الحقوق يختارهم المجلس الأعلى للجامعات، واثنين من رجال القضاء بدرجة رئيس استئناف يختارهما مجلس القضاء الأعلى، واثنين من المحامين يختارهما مجلس النقابة، وثلاثة من رجال القانون من الشخصيات العامة يختارهم رئيس مجلس الوزراء .
واختصت هذه اللجنة بإعداد وبحث ودراسة مشروعات القوانين والقرارات الجمهورية وقرارات رئيس مجلس الوزراء، اللازم إصدارها أو تعديلها تنفيذاً لأحكام دستور 2014، أو التي تحيلها إليها الوزارات والجهات المختلفة لمراجعتها وتطويرها والتنسيق بينها وبين التشريعات المختلفة لضمان عدم تعددها أو قصورها أو تناقضها أو غموضها، والعمل على ضبطها وتوحيدها وتبسيطها ومسايرتها لحاجة المجتمع، وملاءمتها للسياسة العامة للدولة وفلسفتها وأهدافها القومية التي يحددها الدستور، كما اختصت اللجنة ببحث ودراسة ومراجعة مشروعات القوانين الرئيسية بهدف تطوير وتجديد التشريعات، وتوحيد وتجميع التشريعات في الموضوعات المتجانسة، بما يتوافق مع الدستور ويواكب حركة المجتمع وتبسيط نظام التقاضي وتيسير إجراءاته وإزالة معوقاته .
وبالرغم من التنوع في تشكيل اللجنة والتوسع في اختصاصاتها وصلاحياتها، إلا أنه قد صدر قرار رئيس الجمهورية رقم 209 لسنة 2017 بإعادة تنظيم وتشكيل اللجنة العليا للإصلاح التشريعي، وتم التوسع في عضويتها من خلال زيادة عدد أساتذة كليات الحقوق، وزيادة عدد رجال القانون من الشخصيات العامة، كما تم التوسع في عمل اللجنة وزيادة اختصاصاتها لتشمل المعاونة في رسم السياسة التشريعية للحكومة، وإعداد قاعدة بيانات تشريعية قومية تشمل جميع التشريعات والأدوات التشريعية المصرية القائمة، وأن تقوم بالتنسيق بين كافة الوزارات والجهات المعنية بشأن توحيد الرؤى حيال التشريعات الحكومية المقترحة.
إصلاح تشريعي مع إيقاف التنفيذ
تعتبر مسألة إصلاح التشريعات عملية مستمرة تحتاجها أي دولة بصورة دائمة خاصة مع سرعة تطور المجتمعات البشرية. وفي ظل النظم الدستورية الحديثة، تقوم العديد من المؤسسات بهذا الدور بالتوازي وبصورة تكاملية، فهناك العديد من المؤسسات المعنية بشكل مباشر أو غير مباشر بإصلاح التشريعات، سواء باقتراحها كالمجالس النيابية والحكومات أو ببحثها ودراستها والتوصية بإصدارها كالمؤسسات القضائية والقانونية، والمؤسسات الأكاديمية والبحثية.
وتلجأ بعض الدول باتخاذ طريق إضافي بتحديد جهات فنية متخصصة بالإصلاح التشريعي تعكف على البحث والدراسة واقتراح أجندات تشريعية حالية ومستقبلية، وهو المسار التي يمكن اعتبار مصر نسبيًا قد سارت عليه تاريخيًا، لكنه تبلور بشكل أكثر وضوحًا وشمولًا منذ عام 2014 بإنشاء “اللجنة العليا للإصلاح التشريعي”.
وجاءت اختصاصات تلك “اللجنة” معبرة عن التوجه نحو إحداث ثورة حقيقية في بنية التشريعات المصرية الحالية والمستقبلية، ويعد أحد أهم اختصاصاتها هو إعداد وبحث ودراسة مشروعات القوانين والقرارات اللازم إصدارها أو تعديلها تنفيذًا لأحكام الدستور، إلا أن ذلك لم يحدث على أرض الواقع، ولم يكن للجنة أي إسهام واضح بشأن القوانين المنفذة للدستور، ومن أهمها قانون عدم التمييز.
كما يعد اختصاص ” اللجنة” ببحث ودراسة القوانين المكملة للدستور، فرصة لكفاءة وجودة تلك القوانين، التي تعد أهميتها بدرجة أهمية النص الدستوري ذاته، لكن ذلك لم يحدث، ولم نجد للجنة أي اسهامات بشأن قانون الإجراءات الجنائية، الذي أصدره مجلس النواب في غيبتها أو بالأحرى دون الاشتباك مع حالة الحوار الذي فرضه المجتمع على مجلس النواب، على الرغم من كونه أهم القوانين المكملة للدستور.
ويعتبر حق “اللجنة” في تشكيل لجان أخري لدراسة مشروع أو موضوع بذاته، هو أحد أهم المكتسبات الحقيقية، التي نظمت ولأول مرة المشاركة الشعبية المباشرة في صياغة التشريعات، حيث تتولى هذه اللجان إجراء حوار مجتمعي بشأن مشروعات القوانين والقرارات، وتُعد مشروعًا نهائيًا متضمنًا نتائج الحوار وأثره على المشروع المقترح تقديمه إلى اللجنة العليا، إلا أننا ومنذ إقرار هذا الاختصاص في 2017، لم تُجري اللجنة أي حوار مجتمعي بشأن أي مشروع قانون نظرًا لاقتصار أعمال اللجنة منذ تأسيسها على بضع قوانين وفقًا لما تم الإعلان عنه.
قانون الاستثمار نموذج لجودة التشريع
جاء التوسع في اختصاصات اللجنة عام 2017 مصاحبًا لبحثها ودراستها واقتراحها مشروع قانون الاستثمار، والذي جاء معبرًا عن أهمية تلك اللجنة ودورها الرئيسي في كفاءة التشريع على كافة جوانبه، وعلى الرغم من عدم نشر الأعمال التحضيرية والدراسات والأبحاث التي قد تكون “اللجنة” عكفت عليها قبل صياغة قانون الاستثمار، إلا أن خبراء التشريعات يمكنهم ملاحظة حجم الجهود التحضيرية لهذا القانون والواضحة في نصوصه مجتمعه أو منفصلة، فمستوى الصياغة وحبكة النصوص وتراتبها واللغة ذاتها والتي تتناسب مع الصياغات والمفاهيم الدولية، ووحدة فلسفة النصوص واتساقها مع الفلسفة التي تبنتها اللجنة في صياغة القانون، يؤكد حجم الجهود التحضيرية من خلال البحث والدراسة المصاحبة لإعداد هذا المشروع، وهو ما يؤكد بأننا في المسار الصحيح.
غرفة برلمانية ثالثة
لم يكن إنشاء “اللجنة العليا للإصلاع التشريعي” ترفًا، بل ضرورة واقعية لمواجهة ترسانة القوانين السارية في مصر، ولمعالجة قدمها وتعددها وتداخلها وتناقض نصوصها، كما كان إنشاؤها أملًا وفرصة يمكن من خلالها إعادة الاعتبار لآلية صناعة التشريع، باعتبارها عملية منهجية لها أسس وضوابط ومراحل متنوعة تبدأ بالبحث، وتنهي بالصياغة، لكن بينهما الكثير من الدراسات المتعددة التي يمكن من خلالها تحديد فلسفة التشريع وغايته وتوقع أثره وكُلفة إنفاذه وعوائق تطبيقه وغيره من الأمور اللازمة لتحقيق جودته.
وهذا بالضرورة يستلزم تفعيل واستكمال البنية الفنية للجنة، والأسس اللازمة لأداء دورها وتحقيق أهدافها على النحو الوارد بقرارات إنشائها المتعاقبة، والتي أوضحت توافر الإرادة السياسية لدي الرئيس عبد الفتاح السيسي بجعل هذه اللجنة بمثابة بيت خبرة مصرية في مجال الإصلاح التشريعي.
ويعد التوسع عام 2017 في اختصاصات اللجنة من خلال قيامها بإنشاء نظام لتقييم الأثر التشريعي يعتمد على تحليل وقياس الآثار الاجتماعية والاقتصادية لأي من التشريعات أو القرارات المقترحة ومقارنة أهدافها بمخاطرها وتكلفة إنفاذها، هو تطور يجعلها من حيث الأهمية بمثابة غرفة برلمانية ثالثة تُعاون مجلسي النواب والشيوخ في صناعة وصياغة التشريعات سواء الحالية أو المتوقع صدورها تماشيًا مع التطور الملحوظ والسريع الذي تشهده المجتمعات الإنسانية.
الاصلاح التشريعي ضرورة للتطور
القوانين ليست مجرد نصوص تنظم حياة الأفراد وتوازن بين حقوقهم وواجباتهم بشكل مجرد، بل إنها تهدف لتنظيم العلاقات الاجتماعية بما يساهم بشكل رئيسي في تحديد وتوجيه نمط السلوك البشري، وبالتوازي مع عوامل أخرى فإنها تعمل على تطور معيشة وثقافة أفراده، خاصة في دولة قديمة ومركزية كمصر، تلعب فيها القوانين واللوائح دورًا مهمًا في حياة أفرادها، بامتلاكها تراثًا ثريًا في مجال تطبيق التشريعات والخبرات القانونية والقضائية، التي كان ومازال لها دور بارز على المستويين الإقليمي والدولي في بحث ودراسة وصياغة العديد من التشريعات العربية والدولية.
مصر تستحق قوانين تتمتع بالجودة والكفاءة والرؤية التشريعية الثاقبة، فتفعيل لجنة الاصلاح التشريعي وتعظيم أدائها ودورها وبناء جهازها الفني والمعاون، ضرورة وطنية في ظل حالة العشوائية التشريعية على مستوى أجندة الحكومة أو مستوى مشروعات القوانين المقدمة لمجلس النواب، فنحن بحاجة لتشريعات في إطار تصور شامل للبنية التشريعية المصرية، وليس مجرد نصوص تتقدم بها الحكومة لمعالجة أزمات طارئة، أو استجابة لضرورات واستحقاقات دستورية كما حدث مؤخرًا في قانون تقسيم الدوائر، وحاليًا في قانون الايجار القديم.
*محمود الدسوقي