محمود دوير يكتب: في ذكرى 30 يونيو… حدث بارز… ومخاطر لا تزال قائمة

بقلم /محمود دوير
هل فعلًا “آفة حارتنا النسيان” كما قال نجيب محفوظ؟ أم أن هناك في ذاكرة الشعوب ما يستعصي على النسيان؟
نحن اليوم على بُعد 12 عامًا من ثورة 30 يونيو، بما تمثّله من نقطة تحوّل جذرية في تاريخنا المعاصر، حين نجح ملايين المصريين – “30 مليونًا في ميادين الثورة” – في فرض انحياز كبير وواضح من مؤسسات الدولة، وعلى رأسها القوات المسلحة، لمطالبهم في إسقاط حكم جماعة الإخوان، الذي لم يستمر سوى عام، بينما كانت خلفه عقود طويلة من العمل على احتلال العقل الجمعي للمصريين، وربما امتدت إلى ما هو أبعد من حدود الوطن، بدعوات لإحياء فكرة “الخلافة” رغم بُعد الجغرافيا.
لم تكن ثورة المصريين ضد “حكم المرشد” نتيجة ممارسات قادة الجماعة فقط، بل خرج المصريون في غضب عارم ضد مشروع ظلّ لأكثر من 80 عامًا يعمل على تفريغ أي حراك وطني. مشروع لا يؤمن بالوطن، ولا يرى فيه سوى “حفنة من تراب عفن” – كما قال مرشدهم مهدي عاكف.
منذ أن عادت الجماعة إلى الساحة في منتصف سبعينيات القرن الماضي، بدعم مباشر ومعلن من الرئيس أنور السادات، سعت بكل قوتها لاحتلال العقل المصري وتفريغه من موروثه الحضاري وملامح مصريّته، كي يصبح تابعًا لنسق ثقافي ومكوّن وجداني لا يشبه المصريين في شيء.
فباسم الدين، وبدعم رسمي وشبه رسمي خلال حكمَي السادات ومبارك، تسللت أفكار الجماعة، وتحولت مصر رويدًا رويدًا إلى بلد ذي هوى “سلفي”، بعد أن كانت نموذجًا للوسطية والتسامح والتعايش.
فنشأت سلوكيات العنف والغلظة، وتعالت أصوات طائفية لم تكن يومًا من روح مصر. وتزايد أعدادهم مع ثورة النفط والدعم المالي الكبير الذي ضخته بعض الدول والحكومات، ما ساعدهم على السيطرة على النقابات المهنية، والاتحادات الطلابية، وقلوب الفقراء في المناطق الفقيرة، وهي كثيرة في بلدنا.
ودخلت مصر شيئًا فشيئًا إلى ظلام الكهف، ولم يبق من النور سوى عقل مبدعيها ومثقفيها، المضيء والمقاوم للظلام بكل قوته. ولهذا، لم يكن من قبيل الصدفة أن يكون اعتصام المثقفين داخل وزارة الثقافة هو الشرارة التي مهّدت لاندلاع الثورة.
هذه المقاومة لم تكن مجانية؛ فقد دفعت النخبة ثمنًا باهظًا، بدأ بالتكفير، وبلغ حدّ التصفية الجسدية – فرج فودة نموذجًا – مرورًا بالتفريق والنفي، كما حدث مع نصر حامد أبو زيد، أو المصادرة والإرهاب الفكري، ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ.
تزايدت محاولات تكميم المجتمع، وإجباره على العودة لعصور الظلام. فارتدى “نقاب العقل”، وحُوصِر الإبداع، وتزايدت زوايا التطرف، وثقافة “الحسبة” حتى بين العوام. والحقيقة أن المشروع الرسمي لمقاومة هذا الهجوم التتري على العقل، كانت خطواته خجولة في معظم الأحوال، رغم بعض نقاط الضوء في الثقافة الوطنية، التي كان روادها ينتمون إلى المشروع الثقافي العظيم للراحل ثروت عكاشة، أو إلى تيارات يسارية وليبرالية أدركت مبكرًا خطر الجماعة على الوطن ومستقبله، وكانوا يصرخون ويحذرون كـ”زرقاء اليمامة” التي منحها الله القدرة على رؤية العواصف والمخاطر.
بعد 12 عامًا من نجاح ثورة المصريين في إفشال مشروع ترعاه الولايات المتحدة في إطار “شرق أوسط جديد”، في القلب منه نظام حكم بمصر يقبل كل تصورات ومشروعات الغرب مقابل البقاء في السلطة – كانت سوريا، بنموذج أحمد الجولاني والشرع، البديل بعد أن أفسد المصريون مخطّطهم الخبيث.
بعد 12 عامًا… هل آفة حارتنا النسيان؟
للأسف، نعم. بدأ البعض ينسى وله أسبابه الموضوعية التي تحتاج إلى مناقشة جادة وشفافة، حتى لا نستيقظ يومًا لنجد دماء الشيخ عماد عفت، والصحفية ميادة أشرف، وعشرات الضباط والجنود الذين سقطوا في مواجهة الجماعة في 30 يونيو، قد ذهبت سُدى.
كان كثير من الشعب المصري يرى في الجماعة “صوت الدين”، ثم اكتشف لاحقًا أن الدين بالنسبة لهم لم يكن سوى وسيلة لتحقيق مكاسب سياسية.
ولعل المسيرة التي بدأت في ثمانينيات القرن الماضي تحت شعار “الإسلام هو الحل”، وامتدت حتى وصول محمد مرسي لسدّة الحكم في لحظة تاريخية غريبة، كانت تتويجًا لعقود من التحريض والدم ومحاولات الاغتيال منذ عام 1927. وكان على الجميع أن يشارك في كشف دمويّتهم، لا أن تُترك المهمة للبعض، بينما يختبئ غالبية الساسة والمثقفين خلف مبرّرات هشة، وبعضها انتهازي.
لم تتوافر شجاعة المواجهة إلا لقلّة قليلة من المثقفين والسياسيين الذين “قبضوا على الجمر”، وامتلكوا القدرة على الدفاع عن وجه مصر المتسامح، وروحها الوسطية الرافضة للطائفية، والسعي إلى كسر أغلال التديّن الشكلي بأدوات وهابية أو ملامح داعشية وعقل “قطبي” يروّج لوهم الخلافة.
من المؤكد أن الشعب المصري نجح بامتياز في التصدي لحكم الجماعة، لكن النخبة من جهة، والحكومات المتعاقبة بعد 30 يونيو من جهة أخرى، أخفقت – حتى الآن – في التصدي للمشروع الفكري للجماعة، ولم تُحرز تقدمًا يُذكر في تجفيف منابعها الفكرية.
لا تزال أفكار المجتمع أسيرة لما زرعته الجماعة في تربته منذ السبعينيات، ولا تزال أولويات النضال الفكري تتعلق بقضايا ماضوية معادية للعلم، تدير معركة شرسة ضده وضد رموزه.
ولعل السؤال المنطقي: لماذا فشلت النخبة، ولم تنجح السلطة حتى الآن في إنجاز مشروع فكري وثقافي شامل قادر على مواجهة التحدي الرجعي المتجذّر في جنبات الوطن؟
بل، لماذا تأخّر هذا المشروع 12 عامًا كاملة؟
بل، السؤال الأقسى: لماذا نسير عكس ما يجب، ونُصفّي ما لدينا من إمكانيات فنية وثقافية وحضارية؟
لماذا نحاصر الإبداع، ونزدري المبدعين الجادين، ونضع العقبات أمام أي حراك فكري قادر على مواجهة الظلام، بطاقات نور تمتد لملايين المصريين الذين يُختَطَفون باسم الدين؟
كان الحوار الوطني بداية مُبشّرة لمشروع خلاق يُعبّر عن تحالف 30 يونيو، ليس بمعناه السياسي فقط، بل بما يمثّله من توجه فكري ينتصر للدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، ويُرسّخ قيم المواطنة، والديمقراطية، وحرية الإبداع.
لكن للأسف، لم تتبلور التصورات إلى خطوات عملية على الأرض، أو مسارات يمكن أن تُسهم في المواجهة الضرورية مع دعاة الظلام الذين أعادوا المجتمع إلى سراديب الماضي، ملوّحين بالتكفير تارة، ومبشّرين بمفاتيح الجنة تارة أخرى.
وفي الوقت نفسه، هناك ضرورة لمواجهة غُلاة الوطنية ومحتكريها، الذين لا يدركون خطورة المرحلة التي تمر بها البلاد، ولا يعون أهمية تماسك الجبهة الداخلية ووحدتها في هذه اللحظة الحرجة عالميًا.
لا شيء أهم الآن من تجفيف منابع الأفكار الظلامية، وفتح الطريق أمام طاقات الضوء، وأشعة الشمس، لإعادة الحيوية للعقل المصري، وبثّ الثقة والأمل في الأجيال القادمة.