توفيت بعد قتال دام 5 سنوات مع السرطان.. من تكون الطبيبة المتميزة هناء عبدالراضي؟

في زمن يتسابق فيه الكثيرون نحو الأضواء، اختارت هي الظل، بينما كانت المدينة تنادي بخدماتها ومكانتها العلمية، قررت أن تدير ظهرها للمدن المترفة، وتمضي إلى أقاصي الوطن، إلى الوديان حيث الحياة قاسية، والعزلة أكثر قسوة، ففي عمق سيناء، بزغ نور امرأة حملت الترياق معها في حقيبة طبية، وعلى قلب يفيض رحمة، ذهبت إلى الصحراء وهي تحمل في قلبها رسالة، وفي يدها سماعة طبيب، وعلى وجهها نور الأمومة.
طبيبة صعيدية تحدت القيود
ولدت الدكتورة هناء شوقي عبدالراضي، بمحافظة سوهاج في صعيد مصر، وتخرجت في كلية الطب جامعة أسيوط 1987، لم يكن الطريق أمامها مفروشًا بالورود، لكنها شقت طريقها وسط صخور الصعيد بإصرار امرأة تعرف تمامًا معنى أن تكافح وسط مجتمع محافظ.
كان من الممكن أن تفتح لنفسها عيادة في المدينة، أو تتسلق سلم المناصب الأكاديمية، لكنها اختارت غير ذلك تمامًا، اختارت أن تهاجر بإرادتها إلى منطقة نائية في قلب وديان سيناء، حيث لا طبيب، ولا صيدلية، ولا كهرباء، ولا ماء صالح للشرب، لكي تمنحهم الحياة.
من الصعيد إلى سيناء
بدأت رحلة الدكتورة هناء مع الحياة وسط سيناء، حيث الناس هناك لم يعرفوا شيئًا عن الطب الحديث، ولا عن المدارس، ولا عن المستشفيات، جلبوا معهم عاداتهم وتقاليدهم وقسوة الصحراء، وجلبت هي قلبًا من رحمة، وعلمًا لم يتوقف عن العطاء.
بيت صغير وسط الجبال
منذ عام 1990، انتقلت الدكتورة هناء مع زوجها عبدالناصر حامد عبدالراضي، المدير السابق لبنك التعمير والإسكان، إلى بيت صغير وسط سيناء بلا خدمات، عاشت مع أسرتها، لتبدأ عطاءها بين جبال وبطون خيام، في مسار لا يعرف التراجع، بل الحب العميم للعمل، وأصبحت الطبيبة، المعلمة، المثقفة، المرشدة، والأم البديلة لكل طفل وامرأة هناك.
وجع النزيف ولدغات العقارب
كانت المآسي هناك تتجاوز الوصف، نساء يمتن أثناء الولادة بسبب النزيف، وأطفال تفترسهم الصحراء، فيموتون من لدغات العقارب لعدم توافر الأمصال، وشيوخ لا يعرفون كيف يقيسون الضغط أو السكر، في قلب هذه العزلة.
لم يكن من السهل أن تأتي امرأة من الصعيد لتطلب من النساء أن يجرين فحوصات أو يتناولن أدوية، وكان الخوف من المستشفيات، والرعب من السونار والأشعة، يمنع نساء البدو من تلقي العلاج.
ابتسامة تخترق الصحراء
حينها تركت الدكتورة هناء المستشفى لتفتح طريقها إلى خيام البدو، فكانت تشق الصحاري وتدخل الوديان قرية بعد أخرى، تقرع الأبواب بابتسامتها لا بيديها، وتكسر الحواجز بنظرة حانية وكلمة صادقة، تقنع النساء أن الكشف لا ينقص من كرامتهن، وأن السونار لا يخيف، وأن الطب أمان لا تهديد، شيئًا فشيئًا بدأت النساء يثقن بها، فأصبحن ينتظرنها بشوق، كما ينتظر الغيم في عز الجفاف.

كانت تحمل أدوية ومعلومات وابتسامات، وتتنقل وسط الجبال حاملة حقيبتها، تزور البيوت بيتًا بيتًا، لم تنتظر المرضى أن يأتوا إليها، بل هي من كانت تذهب إليهم، تقودها ثقة قلبها فتدخل خيمة وتقيم فحصًا، تحقن، تنصح، وتترك أثرها بلطف اليد قبل الدواء.
كانت تعلم النساء كيف ينظفن الماء، وتوعي الأطفال عن الصحة، وتكافح كي يعرف كل بيت كيف يحافظ على صحته، حتى لقبها الأهالي “طبيبة الوديان”.
لكنها لم تقف عند حدود الطب، رأت أن الجهل مرض آخر، وأن المرأة التي لا تقرأ، لا تعرف كيف تربي أطفالها، فبدأت مشروعها الأهم “محو أمية النساء في الوديان”، ففتحت بيوت المعرفة، وأقامت دروسًا في تعليم القراءة والكتابة، وعملت على نشر الوعي بين الأمهات، تحكي لهم عن التغذية، وعن الزواج الآمن، عن الرضاعة والوقاية، وحتى عن حقوقهم، وأصبحت الملجأ، والدليل، والأم، والابنة، والصديقة.
أنشأت سبعة فصول لمحو الأمية في المناطق التي لا تصلها خدمات الدولة، وعلمت النساء كيف يصبحن أمهات قادرات على تربية جيل مختلف، لتحصد لقب شرف أوسع في الحقل الإنساني، إذ لقبت بـ”أميرة الوديان”، تقديرًا لدورها الطبي والتربوي.
لم يكن منزلها الذي كان في وسط سيناء بيتًا عاديًا، بل كان مستشفى وملجأ ومدرسة، كانت تعالج المرضى مجانًا وتفتح بيتها لمن يحتاج، تمر الأيام، وتكبر أسرتها، لكن مع كل مولود جديد كانت تضيف للعزلة طاقة من الحنان، وللصحراء لمسة إنسانية.
بينما كانت تعالج مئات الناس، كانت تربي أجيالًا ناجحة في بيتها، وقد خرج أبناؤها إلى النور من وسط هذه الصحراء، طبيب ودكتورة جامعية وطالبة في كلية القمة، حيث تعمل ابنتها الكبرى دينا، عضو هيئة تدريس بجامعة سيناء، بينما ابنها أحمد حاصل على ماجستير في الطب الرياضي، أما الابنة الصغيرة فهي منه طالبة في كلية الطب الفرقة الرابعة.
أما زوجها، فكان داعمًا قويًا، ترك لها الحرية لتخوض معركتها البطولية في مجتمع بدوي مغلق، يعرف الرجال فيه فقط، وتهمش النساء.
في عام 2019، نالت لقب “الطبيبة المثالية” في محافظة شمال سيناء، تقديرًا لجهودها الاستثنائية، وبعد انتقال العائلة إلى محافظة جنوب سيناء، حصلت على نفس اللقب مرة أخرى في عام 2023، كما منحتها الدولة لقب “الأم المثالية”، تقديرًا لدورها الإنساني.
قبل سنوات وتحديدًا في مايو 2021، تسلل السرطان إلى جسدها، حاربت الألم في معركة استمرت قرابة خمس سنوات، لكنه لم يهزم روحها، ولم يطفئ شعلتها، بل كانت تذهب للعلاج في القاهرة وتعود سريعًا إلى وديانها، وكأنها تخاف أن يتأخر مريض أو تضيع حياة إنسان.
لم تستسلم يومًا
حتى حين اشتد عليها المرض، كانت تكتب وتنشر وتوثق رحلتها وتصرخ في وجه الإهمال بأن الناس هناك يستحقون الحياة، حتى لا تموت أخرى كما ماتت كثيرات قبلها.
في فجر 29 يوليو 2025، وبعد معركة حادة دامت 5 سنوات ضد السرطان، توقفت رحلتها بعد أكثر من 34 عامًا من العطاء، لكن صداها لم يتوقف، فكتبت عنها الصحف، وأشادت بها مؤسسات الدولة، ونعاها كثيرون، وبكاها أهالي سيناء بحزن شديد.
امرأة أنجبت الحياة
لم تكن الدكتورة هناء فقط طبيبة، بل كانت مؤسسة حملت على عاتقها ألا تترك امرأة دون رعاية، كانت حالة إنسانية ورمزًا لما يمكن أن تفعله الإرادة، ذهبت إلى مكان لا يفكر أحد أن يسكنه، فحولته إلى واحة من العلم والرحمة.
حين يسأل أحدهم: من هم العظماء؟ لا تفتشوا في قصور الحكام ولا صفحات التاريخ، بل ابحثوا في قلب الصحراء، حيث امرأة في بيت طيني صغير، علمت مجتمعًا بسيطًا كيف يحيا حياة كريمة.
