بين السماء والأرض: رقصة الأدومو لدى الماساي

رقصة الأدومو، أو ما يُعرف بـ “رقصة القفز”، من أبرز الطقوس الثقافية والرمزية التي تمثل مرحلة مهمة في حياة قبيلة الماساي، خاصةً في رحلة الشباب نحو الرجولة والاعتراف الاجتماعي. هذه الرقصة، التي تم تصويرها في العديد من الأفلام والصور، تحمل معانٍ عميقة تتجاوز الشكل الخارجي الذي يراه كثير من السياح عند زيارتهم لمجتمع الماساي.
الرقصة المعروفة باسم “الأدومو” تعبر عن الكثير في ثقافة الماساي. فهي ليست مجرد رقصة، بل هي عرض للقوة والرشاقة والقدرة على التحمل، حيث يقفز الشباب في الهواء إلى ارتفاعات مذهلة، معبرين عن طاقتهم وقوتهم الجسدية. يُعد هذا الأداء تحدياً ومجالاً لإظهار شجاعة المحارب، إذ يعكس استعدادهم لحماية القبيلة، كما يعزز مكانتهم الاجتماعية.
رقصة الأدومو تمثل جسراً بين الأرض والسماء، بين الإنسان ومحيطه الروحي. القفزات المتكررة تعبر عن الاتصال بالأجداد، والتواصل مع قوى الطبيعة والإله “إنجاي” ، ومن خلال هذه الرقصة، يجدد المحاربون ولاءهم لتقاليد القبيلة، ويعبرون عن فخرهم وهويتهم الثقافية، مما يعزز الروابط الاجتماعية ويقوي الشعور بالانتماء.
تقام رقصة الأدومو في مناسبات احتفالية مختلفة، مثل حفلات بلوغ السن، حيث يشارك الشباب الذين يمرون بمرحلة الموران (الشباب المحارب) في أداء هذه الرقصة. تستمر الاحتفالات لأيام، يتخللها الغناء والرقص والمغازلة، ما يجعلها تجربة ثقافية متكاملة تجمع أفراد القبيلة في مشهد فني قوي وحيوي.
بالنسبة لشعب الماساي، تُعتبر رقصة الأدومو جزءًا لا يتجزأ من احتفال الإيونوتو، وهو الطقس الذي يُرقي فيه الشباب، المعروفون بالموراني، من مرحلة المحاربين الشباب إلى الرجولة الكاملة. تبدأ رحلة الشباب في الماساي بمراحل رسمية ومحددة، حيث يظل الأطفال مع أسرهم حتى يصلوا إلى سن المراهقة، ثم يمرون بطقوس إموراتا، وهي مراسم الختان التي تُعد شرطًا أساسيًا لقبولهم كموراني صغار، بعد اجتياز هذه المرحلة، ينتقل الموراني إلى المعيشة في مخيمات مانيتا الجماعية، حيث يتعلمون الاستقلالية والاعتماد على الذات بعيدًا عن أسرهم، في بيئة تفرض عليهم قواعد صارمة، من بينها الامتناع عن الاختلاط مع النساء وأداء واجبات محددة للحفاظ على شرف القبيلة.
يستمر احتفال الإيونوتو لما يصل إلى عشرة أيام، ويتضمن غناءً مستمرًا، واستعراضًا أمام المحاربين الأكبر سنًا، وطقوس ذبح الأبقار، بالإضافة إلى تقديم أولى جرعات المشروبات المخمرة المصنوعة من الصبار والعسل. ومن بين أبرز فعاليات هذا الاحتفال تبرز رقصة الأدومو، التي تُعرف بكونها رقصة قفز تنفذ ضمن دائرة، حيث يقفز المحاربون الشباب بحركات متناسقة، محافظين على أجسامهم مشدودة ومرتفعة، مع تجنب لمس الكعب الأرض.
تشكل هذه الرقصة اختبارًا للمهارة والرشاقة، إذ يكتسب القفز العالي والجميل إعجاب الحاضرات من النساء، ما يزيد من دافعية المحاربين لتحقيق أداء متميز، خاصةً وأن الزواج والإقبال على الحياة الزوجية يتبعان إتمام هذه الطقوس بنجاح. يتبادل المحاربون الأدوار في القفز، بينما يردد زملاؤهم الأناشيد التي ترتفع وتتناغم مع ارتفاع القفزات، في مشهد يعكس وحدة وتماسك المجموعة.
بعد انتهاء الاحتفال، يشير حلق الموراني لشعرهم الطويل إلى اكتمال تحولهم إلى رجال كاملين في المجتمع، حيث يصبحون مؤهلين لتحمل مسؤوليات جديدة، تشمل الزواج وتأسيس الأسر والمشاركة في شؤون القبيلة، تمثل رقصة الأدومو، إذن، “قفزة الحياة” الحقيقية التي تؤسس للتحول الاجتماعي والروحي في حياة شاب الماساي، وهو ما يجعلها طقسًا ثقافيًا فريدًا يعكس القيم والهوية الجماعية للشعب الماساي.
في مجتمع الماساي، رقصة الأدومو ليست مجرد أداء جسدي أو عرض تقليدي، بل تحمل دلالات ثقافية واجتماعية عميقة تعكس النظام الاجتماعي والهويّة القبلية لشعب الماساي. فهي تمثل طقس انتقالي، أي نقطة فاصلة بين مرحلة الطفولة وبداية الرجولة، ما يجعلها ذات أهمية رمزية بالغة في تشكيل هوية الفرد ودوره داخل الجماعة، تُظهر الرقصة العلاقة الوثيقة بين الفرد والجماعة، حيث يؤدي الموراني القفزات داخل دائرة مغلقة تضم باقي المحاربين الذين يرافقون القفزات بالأناشيد، ما يعزز الشعور بالانتماء والتضامن بين أفراد القبيلة. هذا التمازج بين الأداء الفردي والجماعي يشير إلى أن الرجولة لا تتحقق فقط بالشجاعة الشخصية، بل أيضًا بالاندماج والالتزام بالقيم الاجتماعية.
من الناحية الجسدية، تتطلب الرقصة قدرًا عاليًا من اللياقة والقوة والرشاقة، مما يعكس معايير الماساي في تقييم الرجل، حيث ترتبط القدرة البدنية ارتباطًا وثيقًا بالقدرة على الدفاع عن القبيلة وحماية مواردها. ارتفاع القفزات وجمالها يمنحان المحارب قيمة اجتماعية إضافية ويزيدان من فرص نجاحه في الارتباط والزواج، مما يربط بين الأداء الجسدي والنجاح الاجتماعي، إضافة إلى ذلك، تحمل الرقصة بعدًا روحيًا، حيث تحمل طقوس الماساي صبغة دينية ترتبط بحماية الروح والقوة التي تمنحها هذه الطقوس للمشارك. فالرقصة تمثل رمزًا للانتقال من حالة الضعف والاعتماد إلى قوة وحماية القبيلة، وهو ما يبرز العلاقة بين الإنسان والطبيعة والروحانية في الثقافة الماساي.
للنساء أيضًا نصيب من الفرح والمشاركة في هذه الرقصة التقليدية الهامة لدى شعب الماساي، إذ تشارك النسوة اللاتي أنجبن أو المُهيآت للزواج في الرقصة بهزّات خفيفة للجسم للأمام والخلف مع تحريك للوسط، في مشهد يُعبر عن دعمهن للمحاربين واحتفائهن بمراحل النضج والرجولة. غير أن تقاليد الماساي لا تسمح بمشاركة النساء غير المنجبات، إذ يُنظر إليهن باعتبارهن نذير شؤم قد يُفسد روح الطقس الاحتفالي. هكذا، تحتفظ الرقصة بقوانينها الصارمة التي تعكس معتقدات المجتمع الماساي حول الخصوبة، والحياة، والاتصال بقوى الطبيعة.
نستنتج مما سبق أن، قفزة الحياة في رقصة الأدومو ليست مجرد حركة جسدية، بل هي رمز للتحدي والارتقاء بالذات إلى آفاق جديدة، هي تجسيدًا حيًا للهوية الثقافية والاجتماعية عند الماساي، ذلك الإنسان الأبدي نحو تجاوز حدوده الأرضية وملامسة السماء ، حيث تتداخل فيها أبعاد الشجاعة، والتقاليد، والانتماء، والروحانية، لتشكل معًا طقسًا يعزز من استمرارية القبيلة وترابط أفرادها عبر الأجيال، في كل قفزة، يقترب المحارب من السماء التي تمثل رمز الصعود فوق متاعب الحياة، متصلاً بقوة الروح والطبيعة والإله “إنجاي”، متحدياً حدود الجسد ومثبتًا ولاءه لتقاليد القبيلة وهويتها. هذه القفزات تجسد نجاح الإنسان في مواجهة تحديات الحياة بثبات وإيمان، معلنة أن الحياة، بكل ما فيها من اختبارات ومراحل، هي رقصة جماعية لا يُكملها الفرد وحده، بل بقوة الجماعة، بروح الأجداد، وبحلم الخلود وسط السماء المفتوحة..
باحثة دكتوراة في التاريخ والحضارة الإسلامية