بين الماساي: الماشية نعمة من الله وتضحية للحياة

تعد قبيلة الماساي من أبرز المجتمعات التقليدية التي ما تزال تحافظ على نمط حياة متوارث منذ قرون، برغم ما يشهده شرق أفريقيا من تحولات اجتماعية واقتصادية نتيجة التمدن والعولمة. وتتمركز قبيلة الماساي في المناطق الحدودية بين كينيا وتنزانيا، وتمثل نسبة ضئيلة من سكان الدولتين، إلا أن حضورها الثقافي والاجتماعي يفوق حجمها العددي، وذلك بفضل طبيعة ممارساتها الاجتماعية والدينية الفريدة، وارتباطها الوثيق بماشيتها التي تشكل محورًا أساسيًا في الاجتماعية والاقتصادية.
يتحدث الماساي لغة “الما” (The Maa language)، وهي إحدى اللغات النيلية الصحراوية المنتشرة في إقليم البحيرات الكبرى الأفريقية. وتُعد ثقافتهم من أكثر الثقافات الأفريقية التي ظلت بمنأى نسبي عن التأثيرات الغربية، حيث تمسّك الماساي بهويتهم التقليدية المتوارثة، لا سيّما فيما يتعلق بمكانة الماشية في حياتهم. إذ تقوم العقيدة الماساوية على أن الإله “ناجاي” (Ngai) قد منح شعب الماساي الماشية منذ بدء الخليقة، حيث يُروى أن السماء انفصلت عن الأرض، وأوكل ناجاي إلى الماساي وحدهم حيازة جميع الماشية الموجودة على الأرض، باعتبارها هبة إلهية خالصة لهم.
في هذا السياق، تتداخل الماشية في الموروث الماساوي مع أساطير الخلق والوجود. ويروي التقليد الشفهي للماساي أن الإله ناجاي استدعى أول رجل ماساوي يُدعى “ماسينتا”، وكلفه بإعداد مكان مناسب لاستقبال هدية السماء. وفي صبيحة اليوم التالي، تنزلت الماشية من السماء داخل غلالة من الجلد، وسط صوت رعد مزلزل، لتهبط إلى الأرض عبر جذور شجرة التين البرية (Caprifig)، وهي شجرة مقدسة في معتقدات الماساي. غير أن نزول الماشية توقف بسبب فزع صديق ماسينتا “دوروبو”، الذي لم يلتزم بوصية الصمت، ما أدى إلى توقف العطاء السماوي وحرمان البشرية من الماشية الإلهية التي استأثر بها الماساي وحدهم.
وبناءً على هذا التصور الديني، نشأ اعتقاد راسخ لدى الماساي بأن الماشية ملك لهم بقرار إلهي أبدي. ونتيجة لذلك، اعتبروا السطو على ماشية القبائل المجاورة عملاً مشروعًا لاسترداد “حقهم المقدس”. كما يرون أن الاشتغال بأي مهنة أخرى، لاسيما الزراعة، يُعد إهانة صريحة لإرادة الإله ناجاي، الذي خصّهم بمهنة رعي الماشية دون سواها. ومن ثم، يحظرون حرث الأرض إلا لدفن الموتى أو التنقيب عن المياه، كما يقدسون الأعشاب الطبيعية لدورها في تغذية الماشية، ولأهميتها في الطقوس الدينية والاجتماعية.
لا تقتصر مكانة الماشية في ثقافة الماساي على بعدها العقدي، بل تتجلى كذلك في الممارسات الغذائية والطقوسية. إذ يشكّل الحليب الطازج والمختمر الممزوج بدم الماشية الغذاء الرئيس للماساي، خاصة في أوقات الجفاف. ويُعرف هذا الخليط باسم “نايلانجا” (Nailang’a)، ويتم حفظه في قرون الماشية المغسولة ببول الأبقار الطازج، الذي يُعتقد أن له خصائص معقمة. ويتم الحصول على الدم دون قتل الحيوان؛ إذ تُربط رقبة البقرة حتى يتضخم الوريد، ثم يُثقب بسهم صغير ليُجمع الدم المتدفق في أوانٍ تقليدية. ويُوقف النزيف لاحقًا بخلطة من الروث والطين. ويعتقد الماساي أن هذا المزيج يُعزز القوة والمناعة الجسدية، كما يُستخدم الدم في تحضير المشروبات والوجبات الطقسية.
رغم ارتباط الماساي الوثيق بالماشية، فإن ذبحها لا يُمارَس إلا في حالات استثنائية، كالمجاعات، أو طقوس ما قبل الحروب، أو عند ضعف الحيوان نتيجة المرض أو العرج. أما اللحوم اليومية فتأتي من الأغنام والماعز، بينما تُحرم لحوم الأسماك تحريمًا مطلقًا. ويُسمح بأكل لحم الجاموس باعتباره “ماشية برية”. وعند الضرورة القصوى لذبح الأبقار، يتم إخفاء الأمر خشية غضب ناجاي، كما يُخصص جلد الحيوان المذبوح لصناعة الملابس وأدوات الاستخدام اليومي.
تتجلى القيمة الرمزية والاجتماعية للماشية كذلك في كافة مناسبات وطقوس الماساي.فالماشية تُعد معيار الثروة والجاه، وتُقدَّم كمهر للزواج، وكهدايا تعزز من الروابط الأسرية والقبلية، ولحل النزاعات، بل تُستخدم كدية للقتل، حيث تُعيد التوازن الاجتماعي المفقود بوفاة شخص. كما تلعب الماشية دورًا محوريًا في طقوس الولادة، والختان، والزواج، والموت. ويُراعى في اختيار الماشية المُقدمة في المناسبات العوامل الرمزية المتعلقة بالعمر، واللون، والوزن، والارتباط الطقوسي بالمناسبة.
يتضح مما سبق أن، أن الماشية في ثقافة الماساي تمثّل أكثر من مجرد مورد غذائي أو اقتصادي؛ فهي تجسيد لمفهوم “هبة الإله”، وأداة لتحقيق التماسك الاجتماعي، ووسيط طقسي يعكس التصور العقدي للوجود. وبهذا، يمكن القول إن منظومة الماشية لدى الماساي تُشكّل نظامًا ثقافيًا مكتمل الأركان، متداخلًا مع البناء الديني والاجتماعي والاقتصادي للقبيلة.
أظهرت التجارب الثقافية لشعوب الرّحّل، مثل الماساي في شرق أفريقيا والمغول في آسيا، قواسم مشتركة عميقة في التعامل مع الحيوانات المقدسة التي تُعتبر هبات طبيعية من الأرض والسماء. فعند الماساي، تُعدّ الماشية هبة إلهية مقدسة، يُمنع ذبحها إلا في حالات الضرورة القصوى كالمجاعات أو الطقوس الدينية، حيث يُنظر إلى قطعان الماشية كمصدر أساسي للغذاء والازدهار الاجتماعي والاقتصادي، كما تمثل رمزًا للثروة والهوية الثقافية. بالمثل، يولي المغول الخيول مكانة مقدسة، إذ تعد مصدرًا حيويًا للتنقل والحماية، ولا يُسمح بذبحها إلا في أضيق الحدود، حفاظًا على استمرار الدعم الحيوي الذي توفره للعائلة والمجتمع. هذه النظرة المشتركة تعكس فهمًا عميقًا بأن الحيوانات المقدسة ليست مجرد موارد مادية، بل هي سند اجتماعي وروحي، وتبني شعوب الرّحّل عليها استمرارية حياتهم، ما يدفعهم إلى الحفاظ عليها بشدة، وتجنب استهلاكها بشكل مفرط خوفًا من فقدان الدعم الحيوي الذي تمثله لهم. لذا، تُظهر هذه الممارسات كيف يتداخل الاعتقاد الديني مع الإدارة البيئية والثقافية لضمان استدامة الموارد الطبيعية في المجتمعات التقليدية.
باحثة دكتوراة في التاريخ والحضارة الإسلامية