توديع زياد الرحباني: واجب وطني

إن وداع زياد الرحباني ضرورة وطنية، إذ إن زياد هو التعبير الجاد المتطرف الأكثر وضوحاً وتحدياً وجنوناً إبداعياً في المسرح العربي المعاصر، هو السخرية الإنسانية من عبث الوجود على أسس فلسفية ترصد غياب العدالة الإنسانية، ترصد فقر الفقراء وترف الأغنياء ترصد وهم الثروة والقوة وتتأمل فكرة المصلحة والقوة كهدف للعلوم السياسية، وذلك هو هدف كل السياسة في التاريخ والجغرافيا كفكرة مضادة لإنسانية الفن ورؤيته للحياة.
كتبت الفنانة المصرية النجمة حنان سليمان ابنة جيلي الطيب، وهي غير معروف عنها اهتمامها ناشطاً في الشأن العام لكن اهتمامها بزياد هو اهتمام إبداعي وفيه كتبت على حسابها في الفيسبوك:”إن كل هذا الحشد الكبير في وداع زياد الرحباني دليل على سلامة الوعي العربي الكبير”. ولعل التعليق المتأمل البسيط لها يصبح مدخلاً لتفسير عميق لمشروع زياد الإبداعي ويحدد مدى عمق الوعي العام العربي، رغم كل المحاولات التراكمية والمليارات والجهود والانتظام في عملية التأثير على هذا الوعي. وزياد حالة إبداعية نادرة تشبه تركيبة ديوستيوفسكي الشهيرة التي تنتمي لعائلة ثرية، لكنها عبر العطف على الفقراء والمضطهدين والضعفاء والمغلوبين على أمرهم، قد دفعته لترك مراكز القوة الاجتماعية نحو الدفاع عنهم والانتصار لهم. هكذا زياد المولود طفلاً مترفاً لأسرة ثرية تحظى بالنفوذ الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في لبنان وفي الوطن العربي الكبير، ولكنه حقا يسير خلف رقته ومشاعره الإنسانية المرهفة التي تحولت إلى أفكار واضحة لدعم الضعفاء الذين يقفون تحت المطر في ليالي الشتاء وفي شمس الظهيرة في أيام الصيف ينتظرون الماء والطعام والستر. وقد ذهب زياد بعيداً إذ أعلن الانتماء للتيار الشيوعي في أوائل السبعينيات في لبنان، ورفع صورة لينين على جدران البيت البرجوازي العربي الكبير بيت فيروز الرمز العربي بيت الرحبانية.وهو سلوك انتحاري لشاب نشأ في قلب بيت من أبرز بيوت النخبة العربية ذات الصلة بدوائر النفوذ، التي تعمل في إطار من الرضا العام عنهم في مشروع إبداعي عربي يفهم سيد درويش ويغني لفلسطين كما يغني للحب، وهو مشروع أصبح علامة على لبنان، إذ إن لبنان هي شجرة الأرز والجمال والتعددية والسيدة فيروز في مشروع الرحبانية الموسيقي النهضوي العروبي الكبير. فليس صحيحاً أن مشروع الرحباني الأب والعم ومشروع فيروز الأم كان بعيداً مثالياً، بل كان في قلب الضمير العربي الحي ولكن بطريقة تقليدية متوازنة تتفق مع الأداء العام للنخبة التقليدية العربية.وكذا ذهب زياد إلى المحطة الأخيرة تمرداً وجنوناً إبداعياً استلهم الهوامش الإبداعية والثقافية الإبداعية العربية.ولكن زياد شاء أم أبى قد ولد في المتن العام الإبداعي في لبنان، فقد تحولت معه الهوامش إلى متن مدهش، وأينما ذهب للهامش تحول ذلك الهامش معه إلى متن قابل للاعتراف والتصديق في الثقافة العربية.مع زياد الذي يقف خلفه التراث والحماية الرحبانية الفيروزية اضطرت الرقابة للتسامح معه واضطر السياسيون اللبنانيون للاشتراك بالضحك والصمت والمشاركة الودية مع سخريته منهم.زياد أيضا كان محترفا فقد تعلم الفن منذ نعومة أظافره، وهذا الاحتراف وذلك الفهم لحيوية الفن وشعبيته كان أكبر كثيراً من انحيازه الأيديولوجي المعلن.ذلك أن الفن الحقيقي في جوهره، كل الفن الحقيقي هو انتصار للإنسان ودفاعاً عنه، وهو تعبير عن الحق والخير والجمال.وهكذا كان زياد الرحباني في القلب من جوهر الموسيقى والغناء والمسرح، ولذلك فمشروع زياد الإبداعي أكبر بكثير من الأيديولوجيا، ولو لم يعلن انحيازه الحزبي اللبناني لكان أفضل له ولنا ولفيروز، ولكن هذا هو زياد الواضح جداً كالشمس. كان زياد هو الأفق المتمرد الذي ينظر إليه الهامش والمتن في الوطن العربي بكل إعجاب لا يخلو من غبطة وتمنى ظروف مشابهة لتحقيق كل هذا النجاح وهذا الوعي، ولكن من أين تأتي الأقدار لكل موهوب متمرد بأم كفيروز وبأب كعاصى الرحباني. ولذلك يغني زياد في لبنان ليصنع مشروعه الخاص ويقدم أحلامه، وقد كان علامة المسرح والغناء العربي في فترة نشاطه الكبيرة في التسعينيات من القرن العشرين المنقضي. وزياد العنيد قد تفاعل مع فيروز الرمز الأكثر عناداً وكما منحها زياد تمرداً واقتراباً من الواقع، منحته فيروز كثيراً من التوازن الاحترافي ومنحت إبداعه مسحتها المتفردة ذات الطابع رفيع المستوى، ولا أسميه الأسطوري أو المثالي كما أسماه العديد من الكتاب والنقاد أسميه الطابع رفيع المستوى القادر على التواصل مع الجمهور الكبير. هكذا ومع دفاع زياد عن نفسه عندما شرح الانتماء الفكري له، وإن كنت ضد أن يتحزب الفنان في حزب أو ينتمي لأيديولوجيا بعينها، ذلك أن إنسانية الفن فوق أي انتماء أيديولوجي أو سياسي، بقي يغني “أنا مش كافر بس الجوع كافر.. أنا مش كافر بس الفقر كافر”.مؤكداً أن إنسانية الفن في جوهرها انتماء للوطن وللبشر.والموقف الذي حاول الكثيرون ممن لا يمكنهم استيعاب كل إشراقات زياد الرحباني الإبداعية وسلوكه المتمرد، والذي عاش به ومعه على حافة التهديد بالموت والقتل سنوات طوال.ومنها سنوات البقاء في لبنان أثناء الحرب الأهلية إذ إن فيروز أيضاً رفضت المغادرة. مع دفاع زياد يتضح الموقف وقد كان دفاع زياد عن إيمانه بالله وعقيدته المسيحية بالإبداع إذ يمكن تأمل ترتيلة “كيراليسون” _ يا رب أرحم_ وهي دعاء لله عز وجل وهي تصدر من الكنيسة، وزياد يقود الأوركسترا من هناك، وعدد من الترانيم الأخرى الشهيرة له والتي غنتها السيدة فيروز.إن زياد إذن مع الوطن مع الكفاح من أجل المستقبل ومع الحرية والعدل الاجتماعي. وهذا هو جوهر الموقف الذي يجب ان يقف خلف كل مبدع حقيقي في كل زمان ومكان، وذلك لأن الإبداع عن الناس ومن الناس ولهم، ولهذا استقر إبداع زياد الرحباني في الوعي العام العربي، رغم كل الاتهامات والشائعات والتدخل في حياته الشخصية ومحاولة اختراق جدار خصوصية الإنسانية، كي يتم هزيمة زياد الإنسان عبر الزوجة والابن بل وعبر محاولات بضرب علاقته بالأم الرمز فيروز. لم يلحق أحد الأذى بزياد فقد كان قويا بالصدق والمحبة، وهما جوهر الرجولة الحقيقية، أما ما استطاع حقا الدفع به نحو الصمت هو أساسيات العمل المهني عندما تراجعت، وتغير سوق العمل الإبداعي في لبنان وغيره، وعندما تم إغلاق الهوامش الاحترافية التي كانت متاحة، بينما أهدرت المليارات الكبرى على سوق التسلية واللهو وفنون التخدير والتغييب والغلطة، ومنحت الأضواء والفرص الكبرى للهزل والسذاجة والفنون التي تغادر العلاقة مع الواقع العربي المعاش، ولذلك فقد انقطع زياد تماما عن مساره المهني، لأن المراكز العربية الجديدة بالغة الثراء لا يمكن أن يقدم زياد وإبداعه، وقد تأثر سوق الإنتاج الفني في لبنان بتلك المراكز الجديدة وبالحرب والأزمات الاقتصادية، فبقي زياد سنوات لا يتنفس الإبداع، فكان الألم الجسدي وكان التصالح مع المغادرة الكبرى، فصعد إلى السماء، وقد قدم ذاته لخلاص الإنسان، وقدم دروسه في الصدق مع الذات والوضوح والاحترام، وقدم للوعي العربي وللإبداع العربي فنوناً نادرة ستبقى في ذاكرة الإبداع.