النجاة في الصدق، والهلاك في الكذب!

في زمان عز فيه الصدق وسادت نزعة الكذب، ظنا أن الكذب سينجي صاحبه ويأخذ بيده في تحقيق مآربه وغاياته.
لكن نسى هؤلاء وأمثالهم أن الكذب حتى ولو حقق مآرب صاحبه وحقق هدفه فحتما سيأتي يوم وينكشف زيفه وخداعه.أما الصادقون حتى لو اضطهدوا ووقع عليه جور وظلم نتيجة صدقهم، فحتما سيفلحون وسينتصرون نتيجة صدقهم.مصداقا لقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين).. لكن السؤال الذي يطرح نفسه، لماذا الكتابة عن هذا الموضوع؟!الإجابة واضحة بذاتها، لأنه أصبحنا في زمان إلا ما رحم ربي يصدق الكاذب بل ويعلو ويرتفع ويتبوأ أفضل المناصب والمراكز، ويكذب الصادق وتهدر كرامته ويوضع أسفل السافلين.لذا بات الصمت والسكون عن الكتابة في هذا الموضوع خطيئة ورذيلة قد يحاسبنا الله تعالى عليها. الصدق لغة واصطلاحا: معنى الصدق في اللغة، الصدق ضد الكذب، صدق يصدق صدقا، وصدقه قبل قوله، وصدق حديثه. ويقال صدقت القوم، أي قلت صدقا، وتصادقا في الحديث والمودة.الصدق اصطلاحا، الصدق هو الخبر عن الشيء على ما هو به، وهو نقيض الكذب.الصدق خلق عظيم يجب أن يتحلي به الإنسان ليكون من المؤمنين.وقد يتوهم البعض أن الصدق المقصود به صدق الأقوال وحسب، نقول هذا هو المعنى الضيق للصدق أما المعنى الشمولي فيتمثل فيما يلي:صدق اللسان، وهو ما يمكن أن نطلق عليه صدق الأقوال، بمعنى ألا يقول الإنسان إلا صدقا وحقا سواء في خبر نقله لا يزيفه، أو في إجابته عن سؤال طرح عليه، أو حديث يحدث به.صدق النية، بأن يكون مخلصا لله تعالى في كل أعماله، وأن يجعل كل ما يقوم به من عمل حسبة لله تعالى.صدق العزم، وهو الجدية فيما يعزم القيام به لا يسوف ولا يتراخى، بل يعزم عزما صارما أن يقول الصدق ولا يكذب مهما كلفه ذلك.صدق العمل، وهو الاجتهاد في جعل أعمالنا الظاهرة هي هي الباطنة، أي أن تكون علانيتنا موافقة لسرائرنا.صدق مقامات ومراتب الإيمان وهو أعلاها من وجهة نظري، من حب ورضا وزهد وخوف ورجاء وتوكل على الله تعالى.الصدق مع الله، بمعنى المراقبة والمحاسبة لله تعالى في كل أعمالنا وكل ما نقوم به.الصدق مع النفس، الاعتراف بالذنوب وعدم الإصرار على المعصية والعمل على تهذيب النفس وتربيتها.الصدق مع الناس، في المعاملات، في الأسواق في البيوع والشراء، في الحديث دونما مراء ومداهنة ونفاق.ونرى أن الصدق صفة جمال وجلال؟!!، لأن الله تعالي اسمه الصادق، والصادق اسمه وصفته الصدق والله تعالى يجمع بين الجميل والجليل، هذه واحدة. أما الثانية، فهي ارتباط هذه الصفة بالتقوى في قوله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين”، فلا يجتمع كذب مع تقوى، وإنما العكس يجتمع الصدق مع الإيمان بل أهل الصدق يزداد إيمانهم بصدقهم، وتزداد خشيتهم وتقواهم لله تعالى.والثالثة ارتباط هذه الفضيلة بواقعنا الذي نحياه، فإن كان الإنسان صادقاً في أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته ومعاملاته مع بني جنسه حقق الجمال، وفي نفس الوقت وقر الجلال، والجلال والقدسية هنا وقار الله تعالى وهيبته بمعنى إدراكه أن ثمة جليل يسمعه عندما يتحدث ويراه ويشهد عليه.والرابعة، أن فضيلة الصدق من الفضائل العظيمة التي تحدثت عنها جميع الشرائع السماوية، بل وأمرت به وجعلته من مقومات الإيمان فلا يستقيم إيمان يخالطه كذب، بل وحذر الإسلام من ذلك، وجرم الكذب، “آية المنافق ثلاث، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان”، إذًا الإسلام أنزل الكذاب منزلة المنافق المداهن وهذه المنزلة هي الدرك الأسفل من النار. بل ونجد الإسلام أعلى من شأن هذه القيمة وهذه الفضيلة، في قوله تعالى، موضحا صفة الرجال الذين أخلصوا دينهم لله تعالى، “من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه”، الصدق في العهد.وحديث النبي صلى الله عليه وسلم، عندما رأى الرجل مرمي بسهم في حنجرته قال، صدق الله فصدقه الله تعالى.وحديث النبي صلى الله عليه وسلم، تحروا الصدق وإن رأيتم فيه الهلاك فإنه به النجاه، واجتنبوا الكذب وإن رأيتم فيه النجاة ففيه الهلاك.والنبي صلى الله عليه وسلم، قبل بعثته كان يلقب بالصادق الأمين، إذا الصدق معه الأمانة، ها هو سيدنا موسى،” قالت يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين”فالصادق قوي وأمين، والصادق يقول الحق ولا يخشى في الله لومة لائم.أما الخامسة، فهي تناول الفلاسفة لهذه الفضيلة بدءا من حضارات الشرق القديم، فنجد على جدران المعابد الفرعونية رموزا تشير إلى الصدق والأمانة وإلى الشجاعة وإلى العدالة، وكذلك حكيم الصين كونفوشيوس جعل الصدق من الحكمة فالحكيم لا بد أن يكون صادقا في معاملاته مع بني جلدته، ليس هذا وحسب، بل وجعل أساس بناء الدولة الصدق، وكذلك الأمر بالنسبة للطبيعيين الأوائل قبل الميلاد، فنجد على سبيل المثال ديموقريطس، يقول الإنسان الصادق الذي يقدم على فعل الخير يقضي نهاره منشرح الصدر يشعر بسعادة عارمة.وكذلك تحدث عن هذه الفضلية سقراط وأفلاطون وأرسطو، وكذلك أئمة الأفلاطونية المحدثة، أفلوطين السكندري وتلاميذه كل هؤلاء أعلوا من شأن هذه الفضيلة، موضحين أن بالصدق تستقيم حياة الأمم، فلا يمكن بحال من الأحوال بناء أمة على الكذب، حتى وان بنيت ستكون هشة ضعيفة لا تستقيم ولا تثبت أمام أي ريح، وستذهب هباء.وإذا ما انتقلنا إلى فلاسفة الإسلام فنجد الكندي تحدث عن فضيلة الصدق وأن الصدق يحقق للإنسان السعادة التي ينشدها، جاء ذلك في رسالته الحيلة في دفع الهم والأحزان، وكذلك الفارابي الذي جعل من ضوابط تحصيل السعادة أن يكون الإنسان صادقا، وكذلك نجد الشيخ الرئيس تحدث عن مفهوم الصدق في كتابه تسع رسائل في الحكمة والطبيعيات والإلهيات، وأن الصدق هو إخلاص النية والعزم على قول الصدق، وأيضا الإمام الغزالي تحدث عن هذه الفضيلة في كتابه ميزان العمل والفيلسوف أحمد مسكويه ناقش مفهوم الصدق في رسالته تهذيب الحدث والصبيان، والذي يدعو فيها إلى تربية النشء على هذه الفضيلة.أما فلاسفة العصر الحديث فنجد أمامهم كانط يجعل فضيلة الصدق رأس الفضائل، وأن الإنسان ينبغي عليه أن يكون صادقا لا من أجل أن يقال عليه صادق وإنما من أجل احترام العقل والواجب الأخلاقي يحتم عليك أن تكون صادقا.وللصدقة قيمة عظمى في حياتنا نبدأ بالأسرة، فلا بد أن ننشئ أبناءنا على الصدق وعدم الكذب ولا بد أن يكون الأبوان على هذه الشاكلة، أي لا يكذبون على أبنائهم، لأن في ذلك صلاحا لهم.المدرسة، الجامعة، كل مراحل التعليم فعلى من يقوم بالتدريس، أول شيء يعلمونه ويطبقونه في حياتهم بعد غرس قيم الولاء والانتماء، يعلمون تلاميذهم وطلابهم الصدق، لأن الصدق طريق للبناء والتقدم والتنمية، المصارحة والشفافية دون تزوير الواقع، بمعنى لا نجمل الحياة ونزينها وندفن رؤوسنا في الرمال كالنعام وإنما نكون صادقين في تشخيص الداء، حتى نقدم له الدواء المفيد.الصديق الحق هو من لا يخادعك ويخدعك ويكذب عليك، وإنما من يصارحك ولا يكذب عليك، فصديقك من صدقك وصدقك، وكما قال الإمام علي رحم الله رجلا بصرني وأهدى إليً عيوبي ولم يكذب عليّ.الصدق في كل مجالات الحياة، الطبيب في عمله يكون صادقا، والمهندس، المدرس، الأستاذ، القائد كل في مكانه، كل يتحمل مسؤوليته ويواجه بقلب قوي وعقل رشيد ولسان لهاج بالصدق، لماذا لأن الصدق منجاة من كل كرب ومن كل ضيق، حتي وإن كان قوله موجعا ومؤلما في أوله، لكن في آخرته سيكون متقبلا وسنحمد صنيع من صدقنا ولم يكذب علينا.فهل أعلينا من شأن هذه القيمة، وبدأنا بأنفسنا؟!فحياتنا لا ولن تستقيم بالكذب، لا الكذاب ليس له قدمان يقف عليهما، بل ستغوص به في أوحال من الكذب والوهم والخداع، فلا يزال الرجل يكذب ويكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا.ولا يزال الرجل يصدق ويصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا.تخير لنفسك هل تحب أن تكتب عند الله من الصديقين، أم تكتب من الكاذبين بكذبك؟!ما أحوجنا في زماننا هذا إلى إعلاء هذه القيمة، في زمن الكذابون يصدقون والصادقون يكذبون، زمن بات الصادقون مستترين، والكاذبون يناطحون السحاب بكذبهم. أستاذ الفلسفة بآداب حلوان