كن قويًا.. الرجال أيضاً يعبرون عن مشاعرهم بالبكاء.

“شد حيلك” كلمةٌ لطالما قلتها للكثيرين في مئات العزاءات وعشرات الجنازات التي شاركت فيها طوال حياتي لمن فقدوا أحبابهم، ظنًا مني أنها تواسي قلوبًا مفجوعة وتداوي جروحًا في النفس المجروحة، وتجبر النفوس الموجوعة على فقد الأحبة. قسوة الحياة أبت إلا أن تجعلني أسمعها هذه المرة لي “شد حيلك”، وتحديدًا من متصلٍ أيقظني بعد أذان الفجر.
كنت أستعد للصلاة بصلاة ركعتي السنة، دق الهاتف وأنا في آخر التحيات. في هذه الليلة تركت هاتفي، الذي اعتدتُ إغلاقه بعد منتصف الليل، مفتوحًا على غير العادة لتأتي لي رنته كأنها ناقوس خطر مرعب يهز الوجدان، فمن يتصل بي في هذه الساعة؟ لعل الأمر جلل. أرد بعد لحظات من الخوف من أن أسمع خبرًا حزينًا. يأتيني صوت من الطرف الآخر يخبرني بفاجعةٍ أوجعت قلبي وزلزلت كياني: “البقاء لله، شد حيلك، أخوك ممدوح مات”. مات! لا إله إلا الله، لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله. “كيف مات؟ لم يشتكِ من شيء.” “هل كان حادثًا؟” “لا، لقد شكا من بعض الألم في قلبه قبل صلاة الفجر بساعة. هرعنا به إلى المستشفى، سيارتنا اجتازت المسافة من المنزل إلى المستشفى في أقل من خمس دقائق على الطريق السريع.” كان يتحدث معنا طوال الطريق، نزل من السيارة دون مساعدة، ودخل المستشفى على قدميه. دخل الطوارئ واستلقى على سرير الفحص بمفرده دون مساعدة. قال الطبيب بعد أن أجرى الفحص السريع عليه ووضع السماعة على ظهره وهو يتفحصه: “أكيد بيدخن، على العموم حاجة بسيطة، هتروق تاخد جلسة أكسجين الآن وهتبقى كويس”. وضعوا له ماسك الأوكسجين فورًا. كنا نلاحظه وهو جالس يرفع سبابته وهو يمسك بماسك الأوكسجين وينظر لبعيد. لحظات، أسرع أحدنا ليمسك يده، دب الصقيع في يده وقد أمال رأسه. يصرخون على الأطباء، هرع الأطباء والممرضون به إلى جهاز الصدمات في غرفة الرعاية. مقياس الأوكسجين انخفض في أقل من دقيقتين. الأطباء في حالة ذهول: “إنا لله وإنا إليه راجعون، البقاء لله”. صدمة وذهول خيّما على الجميع. رحل ممدوح، كان بيننا يحدثنا منذ دقائق. ياااه رحل ممدوح… أسترجع شريط الذكريات في ليلة الاثنين وقت الفجر، مثلما حدث مع والدي منذ أكثر من ثلاثة عقود وبنفس الأعراض. كنت بجواره عندما فاجأته نفس الألم. كنت بجواره، رفع سبابته ونطق الشهادة وأراح جسده. كان قبلها يقول لي وأنا أبكي: “لا تبكِ، الرجال لا يبكون”. كنت كلما بكيت في أي موقف مؤلم وأنا صغير يقول لي: “لا تبكِ، الراجل الصعيدي ما بيبكيش”.. تركني ورحل. في تلك اللحظات بكيته، وكبرت يا أبي، وكلما تذكرتك بكيت ولا أحب أن أذكر يوم موتك أبدًا. أخي الحبيب رحل مثلما رحل أبي ولكني لم أكن بجواره، حرمت من لحظة الوداع له، حرمت من لحظة كنت أتمنى أن تكون يدي بيده، عيوني تنظر لعينيه، أحتضن جسده، أحتضنه لأمنح جسده الدفء، أكون له سندًا في وقت ضعف، مودعًا في لحظة ابن أبي، وأبي بعد أبي. رحل أخي، كبرت يا أبي وعلمت أن الرجال يبكون. ابن عمتي محمد عندما شاهدني أبكي صرخ فيّ: “ما تبكيش، الرجال ما بتعيطش”، في حين انزوى هو يبكي في ركن البيت وهو يصرخ: “خسارة كبيرة يا خال، خسارة كبيرة فقد كنت له الخال والصديق”. أصدقاء أخي أيضًا عندما وصلوا بيتنا بعد وفاة أخي ممدوح وجلسوا في نفس المكان الذي كان يجمعهم به، أجهشوا في البكاء، لم أستطع منعهم. يشعرون بالقهر ومصيبة الموت التي اختطفت صديقهم بدون سابق إنذار وأوجعتهم. يجهشون بالبكاء وصرخة الرجال المكتومة تملأ صدورهم. “آه يا ممدوح خسارة كبيرة رحلت بدون وداعنا، لا اعتراض على أمرك يا رب، إنا لله وإنا إليه راجعون”. أواسي أحدهم، أحتضنه، أطيب خاطره فتذرف دموعي في نوبة وجع.. الرجال في الصعيد يبكون أيضًا. كنت أحدث أولادي منذ فترة عن الموت، قلت لهم: “أنا هُدفن في بلدنا جنب أبويا. كنت نفسي أُدفن جنب سيدنا الإمام الشافعي وتصلوا الجنازة عليه في السيدة نفيسة، بس كل حاجة بيهدوها ممكن كده أتبهدل ومش هُدفن في الصحراء في أكتوبر. هُدفن وسط الونس، وسط ناسي في البلد. لو ما متّش في البلد ومتّ في القاهرة، والله أعلم الواحد هيموت فين. معلش هتتعبوا وتأخذوني البلد ست أو 7 ساعات لحد سوهاج. وتكلموا أصحابي الكتير في القاهرة أكيد هيجوا يساعدوكم يوصلوني سوهاج لو صليتوا عليه هنا صلوا عليه في البلد برضه في المسجد اللي كنت متعود أصلي فيه. مقبرتنا قدام ضريح الشيخ صالح يعني أي حد هيجي يدفن ميت هيجي يعدي عليه، إخوتي هيجوا يزوروني. ادفنوني في الطراوة، مش بحب الحر، يعني متّ بالليل يبقى الصبح بدري، لو متّ بالنهار استنوا لبعد العصر. عمكم الكبير ممدوح هيعمل لي عزاء كويس هو عارف كل الناس والناس هتجي تعزيكم، عشان هو بيروح لكل الناس”. رحل أخي قبل أن يدفنني أو يأخذ عزائي كما خططت. إنا لله وإنا إليه راجعون. مرّ شريط حياتي مع أخي الحبيب، وأنا أستعيد كلمات المتصل: “شد حيلك”. كيف أشد حيلي وقد انكسر ظهري وانهدّ حيلي؟ من يعوّض أخي؟ من يعوّض غياب الأخ والأب؟ فالأب والأم والأخ والأخت لا يعوضهم أحد. بعد وفاة أبي، شعرت بهذا الإحساس المؤلم منذ عشرات السنين. الآن رحل أخي الأكبر، سندي الذي كان يسد مكاني في بيت أبي، يستقبل إخوتي في بيتنا الكبير، يستقبل أولاد عمي وأولاد عماتي، أولاد خالي وأولاد خالاتي، كل أقاربنا في كل المناسبات. باب بيتنا ومجلسنا مفتوح وسفرتنا ممدودة لاستضافة الجميع. كان يتصل بي ليخبرني: “عند فلان فرح ابنه، اتصل بارك له. لو مش هتقدر تيجي خلاص أنا هسد عنك”. و”عند فلان عزاء، ابقَ اتصل بيه عزّه. هتقولي عندي شغل ومشغول أنا عارف، خلاص ما تجيش، أنا هسد عنك وهكلمك من هناك عزيه”. أتصل بفلان وفلان لأقدم لهم الواجب وأواسيهم أو أبارك لهم في مناسبات الأفراح، فيقولون: “خلاص ما تجيش، الأستاذ ممدوح قام بالواجب وسد عنك كأنك موجود”. كان يتصل بي يسأل: “هتيجي امتى؟ ما تقولش عندك شغل. هات العيال واقعد لك يومين، وتلاتة وسيبهم لي وامشي، يقعدوا براحتهم شهر ولا شهرين إجازة الصيف كلها وتعالى خدهم على المدارس. ما تبعدش العيال عن الصعيد عشان العيال تطلع ناشفة. القاهرة هتعلمهم الدلع، لازم يجوا الصعيد يقعدوا في بيتهم وسط ناسهم، يقعدوا في الشمس ويشموا الهوا”. عند سفري من القاهرة للبلد يظل يتصل بي طوال الطريق حتى أصل أمام البيت حتى يطمئن عليّ كأبٍ محب وأخ يحمل كل الود لأخيه. كالعادة يتصل بي ليطمئن على: “إزيك وإزاي العيال؟ عبد الرحمن ابنك كبر بس راسه ناشفة، متابعة. كل شوية ينزل صور على الفيس بوك بس كويس بقى عارف طريق البلد وبيجي وحده من غيرك بس قُل له يسمع كلام عمك، عايز أخليه راجل، عايزه يجي هنا ينسى مصر. عمار ابنك ده باشا راجل بحبه قوي بشوفه بشوف صورة أبوك الله يرحمه نسخة منه، والواد عبد الله ده بيحب اللعب قوي هاته معاك قُل له عمك هيفسحك. والبت نور الصغيرة دي بحبها قوي بتتصل بي كل يوم أحسن واحدة فيكم، البت دي مخها نظيف هتطلع شاطرة زيك. البت الكبيرة دي فيها شبه كبير من أمك مش هتجوزها… لا لا يا عم جواز إيه دي لسه في ثانوي عايزة تطلع دكتورة أو مهندسة كمبيوتر.. طيب براحتها ربنا يخليهم لك.. خلي بالك منهم وصاحب العيال”. ذات مرة، اتصلت به لأخبره أنني فصلت جلابيب بلدي في وسط البلد. ردّ عليّ: “فصلت ليه؟ أنا فصلت لك لأنك نفس مقاسي وعملت حساب إنك مليان عني شوية، خليت الترزي يوسعهم لك شوية. كويتهم لك مكوة رجل وشايلهم لك في الدولاب، هتيجي هتلاقيهم”. أتصل به أقول له: “مش هقدر أجي الأيام دي، الجو حر وكمان عندي شغل”. فيرد: “الجو حر… عارفك مش بتحب الحر، تعالى وأشغل لك التكييفات بالنهار، وبالليل نقعد تحت تكعيبة العنب، أرش لك الأرضية مية والجو يبقى روعة. وهتصل بأصحابك كلهم ويجوا يسهروا عندنا عشان تحكي لنا عن العالم ماشي إزاي”. كان يسألني قبل مجيئي: “جاي بكرة؟ تحب تاكل إيه؟ أعمل لك كذا ولا كذا؟ عارفك بتحب الفاصوليا، طيب نخليهم يعملوا لك فاصوليا وبامية وملوخية وكل حاجة، ما تقولش مش عايز”. وعندما أصل، أجده قد حضّر لي كل أصناف الأكل، منتظرًا أن آكل كأبٍ فرحان برؤية ابنه يأكل. في الصباح، كان يصرّ: “لازم تشرب لبن، أنا اللبن مش بيحبني بس هشربه عشانك، جايبه عشانك”. يوقظني: “يلا كفاية نوم، جاي من مصر تنام هنا؟ تعالى نروح نصلي بحري ونسلم على ولاد عمتك ونروح البحر نشم الهوا، نركب فلَوكة هشتري لك سمك من هناك لسه مصطادينه من النيل”. من سيسد مكانه الآن؟ لا أحد. أخي الكبير رحل. الكثيرون لا يعلمون أنه من أمٍّ أخرى غير أمي. كان يعامل أمي كأمّه، يرعاها، لا ينام إلا بعد أن يطمئن أنها أكلت وبخير. أمي ربّته بعد وفاة أمّه، فهي ابنة عمها. كان يكلمني أنه جهز الشقة لابنه الصغير ضياء، كل يوم يقول للواد: “شوف لك واحدة أخطبها لك عشان عايز أفرح بيك”. يلح عليّ: “طيب كلم الواد ضياء، بيحبك، شوفه عايز إيه وأنا أعمله له، قُل له لو أي واحدة في أي بلد غير بلدنا عاجباك أروح أخطبها وأسأل على ناسها”. أقول له: “يا أبو بهاء سيبه براحته، الواد لسه صغير”. فيرد: “صغير إيه ده داخل على 23 سنة، عايز أجوزه وأفرح بيه، مش هيبقى قاعد عندي غير البنت الصغيرة بعد ما جوزت الولد والبنت الكبار”. كان يكلمني: “اتصل بفلان بيسأل عليك، خذ رقمه كلمه. الناس مش هتعرف إنك مشغول، الناس ممكن تقول إنك بتتكبر عليهم يا شيخ عيسى”. كنت أجده يسعى في خدمة الناس، يقضي حوائجهم. “فلان عايز علاج على نفقة الدولة، بنت فلان محتاجة مساعدة في جهازها، هكلم لهم بتوع الشؤون الاجتماعية. كلم بتوع الصحة يجوا يعملوا لنا حملة كشف في البلد”. أصبح منزلنا مستقرًا لحملات التطعيم، أبو بهاء يستقبلهم ويقدم لهم واجب الضيافة والطعام بدون سابق معرفة. بائع يمر أمام بيتنا، يوقفه ليخرج له صينية الطعام والماء البارد، يوزع العنب والتين والليمون على الناس. “إحنا زارعين الشجر ده ثواب لله”. في الصيف يضع كولمن الماء المثلج ليشرب كل من يمر أمام البيت. رحل أخي، ومات وأنا في حالة ذهول. قطعت المسافة بين القاهرة وسوهاج في خمس ساعات ونصف مرت عليّ كأنها دهر. حملنا الجثمان، وصلينا الجنازة أمام المسجد. اصطف المئات في الشارع لأن مسجد القرية الكبير لم يسع المصلين. أهل البلد والبلاد المجاورة جاءوا، رغم حرارة الصيف، ليودعوك يا حبيبي. كل هؤلاء الناس جاءوا لأنهم يحبونك، جاءوا ليعلنوا أنك كنت تحب الناس وتسعى في خدمتهم. العشرات يسعون جاهدين لحمل نعشك محبة في وداعك. المسافة التي تستغرق ربع ساعة من قريتنا للمقابر، قطعناها في دقائق في جنازة خفيفة مسرعة. رحمك الله يا حبيبي. دفنتُ قطعة من روحي. الوداع وإلى لقاء.