مصر في إفريقيا: التحديات الحالية وأهمية التكامل الإقليمي

مصر في إفريقيا: التحديات الحالية وأهمية التكامل الإقليمي

ما أشبه الليلة بالبارحة، ففى ظل تحديات جيوسياسية عالمية تتعاظم، فى صراع إعادة رسم خريطة النفوذ والتموضع، وإقليميًا.. ما يواجه المشرق العربى من مخطط إعادة رسم خريطته تحت مسمى الشرق الأوسط الجديد، وقاريًا.. ما يواجه أفريقيا من تحديات، وداخليًا.. ما تواجهه الدولة الوطنية العربية والأفريقية من أزمات، تواصل مصر دورها التاريخى، فى الدفاع عن الحق وإرساء العدل، والأمن السلم والتنمية والتكامل. 

   بالأمس واجهت إمبراطورية الاستعمار القديم، وأشرقت بها شمس التحرر فى ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، لتلهم وتدعم حق الدول العربية والأفريقية فى الاستقلال وتقرير المصير، لتنطلق إلى تأسيس منظمات إقليمية أفريقية تدعم التكامل والتنمية. واليوم أوقفت مصر بثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣، مخطط هدم الدول الوطنية ومؤسساتها من الداخل، وتواصل دورها التاريخى، فى عرقلة مخططات الاستعمار الجديد، وما أحيك من مخططات للمنطقة، تدافع عن الحق الفلسطينى، وتجتهد لاستعادة قوة الدولة الوطنية التي تعرضت مؤسساتها لشروخ وتدعم التكامل الأفريقى أمنيًا وتنمويًا.وما بين الجمهورية الأولى التي أسستها ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، والجمهورية الجديدة التي تؤسّسها ثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣، مشتركات بالغة الأهمية فى التعاطى مع دوائر الأمن القومى العربية والأفريقية والإسلامية، وما تحقق من إنجازات وما أعاقت التحديات تنفيذه، دون إغفال متغيرات السياق التاريخى والعوامل المؤثرة دوليًا وإقليميًا سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا. وانطلاقًا من المشاركة الفاعلة للرئيس عبدالفتاح السيسى، فى أعمال الدورة السابعة لاجتماع القمة التنسيقى لمنتصف العام للاتحاد للأفريقى، التي عقدت بمدينة مالابو عاصمة غينيا الاستوائية، مطلع الأسبوع الجارى، نغوص فى البعد الأفريقى. لم تكن مشاركة الرئيس بصفته رئيسًا لمصر الدولة العضو الفاعل والمؤسس لمنظمة الوحدة الأفريقية ٢٥ مايو ١٩٦٣، والاتحاد الأفريقى الذي بدأ دخول مرحلة النفاذ ٢٦ أبريل ٢٠٠١، بتوقيع ٣٦ دولة تمثل ثلثى دول القارة على قانونه التأسيسى، بل بصفة مصر رئيسًا فى الدورة الحالية للقوة الأفريقية الجاهزة فى شمال أفريقيا، ورئيسًا للجنة التوجيهية لرؤساء دول وحكومات الوكالة الإنمائية للاتحاد الأفريقى «النيباد». فمصر التي دعمت دول القارة الأفريقية لتحقيق الاستقلال، وشاركت بفاعلية فى تأسيس منظمة الوحدة الأفريقية، وتفعيل دورها ثم العمل على تحويلها إلى الاتحاد الأفريقى، تعود بقوة لدورها الأفريقى فى دعم عبور القارة عثراتها ومواجهة تحدياتها، وتحقيق السلم والأمن والتكامل التنموى لصالح شعوبها. تواجه أفريقيا الراهنة تحديات جيوسياسية وصفها الرئيس عبدالفتاح السيسي بـ«المعقدة والمتشابكة»، «بدءًا من النزاعات المسلحة، مرورًا بتفشى آفة الإرهاب، وصولًا إلى الجريمة المنظمة العابرة للحدود، فضلًا عن تداعيات تغير المناخ، وهى التحديات التي تهدد الأمن والاستقرار والتنمية فى أفريقيا، وتستلزم تضافر جهودنا من أجل مواجهتها».   حديث الرئيس السيسي يأتى انطلاقًا من رئاسة مصر للدورة الحالية للقوة الأفريقية الجاهزة بإقليم شمال أفريقيا، التي تمثل جزءا من خمسة أقاليم بالقارة، تستهدف فى مجملها تحقيق أهداف تحقيق السلم والأمن فى القارة. ومنذ تأسيس منظمة الوحدة الأفريقية ثم تحويلها إلى الاتحاد الأفريقى، وهناك مستهدفات رئيسية يستهدف الاتحاد الإقليمى تحقيقها، فى مقدمتها السياسية والاقتصادية، فالمنظمة سعت إلى دعم حركات التحرر والاستقلال، انطلاقًا من مبادئ المساواة، والتحرر الكامل لكل الدول الأفريقية، والتسوية السلمية للنزاعات، وتجنب التدخل فى شؤون الدول الأخرى. ونجحت المنظمة فى تصفية الاستعمار فى أفريقيا ليرتفع عدد الدول المستقلة الأعضاء من ٩ دول إلى ٢٣ دولة، لكنها واجهت ظاهرة تقديس الحدود التي رسمها الاستعمار بدقة، على أسس عرقية وقبلية تزيد من احتمالات نشوب الصراعات المسلحة فور خروجه، وهنا تواصل الدور المصري الذي ساند الشعوب للتحرر، فى العمل على تعزيز دور المنظمة لأداء دورها فى ترسيخ السلم والأمن. فكانت القمة الأولى بعد تأسيس منظمة الوحدة فى ضيافة القاهرة ١٩٦٤، برئاسة الرئيس جمال عبدالناصر رحمه الله، لتناقش القضية الرئيسية وهى العمل على الحيلولة دون نشوب صراعات حدودية بين الدول الوليدة وحديثة الاستقلال. واجتهدت لوضع آلية لمنع وإدارة الصراعات هدفها منع وقوع الصراعات فى مرحلة ما قبل الحدوث، خرجت للنور ١٩٩٣ ومقرها القاهرة بيد أن الصراعات والتحديات المتصاعدة حالت دون نجاحها فى أداء دورها، وفى القلب اعتبار أطراف النزاعات تلك الآلية تدخلًا فى شؤونها الداخلية.  لينتقل العمل الأفريقى المشترك إلى الاتحاد الأفريقى 2002، واضعًا على قمة أهدافه السياسية: توسيع وتيرة التكامل السياسى بين دول الاتحاد الأفريقى، وتحقيق الوحدة والتضامن، وتعزيز الحكم الرشيد والديمقراطية، والتكامل فى الدفاع عن القضايا ذات الاهتمام المشترك. فيما تأتى حزمة الأهداف الاقتصادية بالغة الأهمية: تسريع وتيرة التنمية الاقتصادية، وتمكين أفريقيا من ممارسة دور فعال فى الاقتصاد العالمى، وتعزيز واقع أفريقيا فى التنمية المستدامة وفق أجندة ٢٠٦٣، والتكامل والتعاون الاقتصادى بين دول القارة وفى مجالات تعزيز البحث العلمى فى كل مجالات التنمية. المدقق فى إمكانيات القارة العذراء، يكتشف أنها تملك ثروات وقدرات تؤهلها لأن تكون رقمًا فاعلًا لديه أضعاف القدرات التأثيرية فى المعادلة الدولية والاقتصاد العالمى، إذا ما عبرت تحدياتها واستثمرت بتكامل بين دولها ثرواتها. وهنا ينبغى أن يكون البحث العلمى فى مقدمة الأولويات، فالاحتلال الصهيونى يحتل المرتبة الأولى عالميًا فى الإنفاق على البحث العلمى ٤.٨٪ من إجمالى الناتج المحلى، تليه كوريا الجنوبية ٤.٥٪، ثم اليابان ٣٪، بينما معظم الدول العربية والأفريقية إنفاقها على البحث العلمى أقل من الواحد الصحيح، وقد بلغ الإنفاق فى مصر على البحث العلمى ١.٤٪ فى ميزانية ٢٠٢٤، ومستهدف ارتفاع النسبة إلى ١.٨٪ فى ميزانية ٢٠٣٠. وبالعودة إلى هيكل الاتحاد الذي يعقد مؤتمر القمة بحضور رؤساء الدول، نوفمبر من كل عام، ثم الاجتماع التنسيقى نصف السنوى الذي حضره الرئيس عبدالفتاح السيسي هذا الأسبوع، لمتابعة أعمال أجهزة الاتحاد وفى مقدمتها آليات مجلس السلم والأمن الأفريقى الذي بدأ عمله ٢٠٠٤، بعضوية ١٥ دولة عشر منها يعاد انتخاب أعضائها كل عامين، وخمس يعاد انتخابها كل خمسة أعوام. ولمجلس الأمن والسلم الأفريقى آليات تنفيذ مستهدفاته، من مجلس حكماء هدفه ممارسة الدبلوماسية الوقائية للحيلولة دون وقوع الصراعات، مرورًا بنظام الإنذار المبكر لجمع وتحليل البيانات بشأن التوترات التي يمكن أن ينتج عنها صراعات مستقبلًا، بهدف التوقع والتنبؤ لاحتواء الصراعات قبل نشوبها وصولًا إلى القوى الأفريقية الجاهزة، التي ترأسها مصر فى إقليم شمال أفريقيا فى الدورة الحالية. القوى الأفريقية الجاهزة  وهى قوة تدخل وانتشار سريع عسكرية وشرطية، تشمل خمس فرق تختص كل فرقة بأحد أقاليم القارة، وتستهدف تقديم الاستشارات العسكرية للاتحاد الأفريقى للتفاوض مع أطراف الصراع، وتنفيذ عمليات المراقبة والمتابعة، والمشاركة فى بعثات قوى حفظ الأمن الأفريقى والتدخل السريع لاحتواء الأوضاع الخطيرة. لكن الواقع يقول إن تلك القوة بالغة الأهمية لحفظ الأمن والسلم وإحلال السلام الذي لا بديل عنه لتحقيق التنمية والتكامل القارى اقتصاديًا، لم تبلغ درجة التشغيل الكامل لعدم الجاهزية الكاملة لقوتى شمال ووسط أفريقيا. ولذا أكد الرئيس عبدالفتاح السيسى، أن «تفعيل وتعزيز الآليات الإقليمية المعنية بحفظ السلم والأمن فى القارة بات أمرًا ضروريًا»، وشدد الرئيس: «إن تنفيذ مهام مكونات القوة الأفريقية الجاهزة، ومن بينها قدرة إقليم شمال أفريقيا، فى دعم جهود الرقابة من النزاعات والاستجابة السريعة للأزمات، وحفظ وبناء السلام، يتطلب تنسيقًا وثيقًا مع مفوضية الاتحاد الأفريقى ومختلف الأقاليم الجغرافية».  ولعل الأزمة الحقيقية التي لا تزال مستمرة فى إعاقة آليات منع وإدارة الصراعات فى أفريقيا، ليس فقط تجدد الصراعات وتوافر مسبباتها وضعف البنية الديمقراطية فى العديد من بلدان أفريقيا، بل ضعف تمويل آليات منع الصراعات ومحاصرتها. ولذا دعا الرئيس عبدالفتاح السيسي إلى أن القوة الأفريقية الجاهزة «تتطلب توفير تمويل مستدام لأنشطة القدرة لا سيما لبناء القدرات، بما يحقق الجاهزية التامة لها متى اقتضت الضرورة».  فى ظل الرئاسة المصرية للقوة الأفريقية الجاهزة فى شمال أفريقيا، قال الرئيس السيسي: «خطت قدرة شمال أفريقيا خطوات إيجابية على هذا المسار، حيث أقرت اجتماعات رؤساء الأركان ووزراء الدفاع، التي انعقدت فى القاهرة مطلع العام الجارى خطة الأنشطة والبرامج ودشنت مسارًا للإصلاح المالى والإداري للقدرة، وقامت بمراجعة إجراءات عملها وتحديثها لتتواكب مع نظيراتها بالاتحاد الأفريقى، وبما يحقق استدامة مالية، وكفاءة فى التخطيط والإنفاق».  ومن آليات تحقيق الأمن والسلم، إلى الجهود فى مجالات المستهدفات الاقتصادية، فدول الاتحاد الأفريقى أمامها فرص كبيرة للتعاون والتكامل، عبر مشروعات الربط الإقليمى من خلال شبكات الطرق، وشبكات الربط الكهربى واتفاقيات التجارة، التي تسهم بشكل كبير فى تنمية الاقتصاد البينى وقد بذلت فى هذه الملفات جهود كبيرة يتم البناء عليها لكى تؤتى ثمارها. ومن ملفات الاندماج القارى إلى التحديات التي تواجه القارة وفى القلب منها تداعيات التغيرات المناخية، وفى تلك الدورة تولت مصر رئاسة اللجنة التوجيهية لرؤساء دول وحكومات الوكالة الإنمائية للاتحاد الأفريقى «النيباد»، أكد الرئيس أن أفريقيا التي نحلم بها باتت حلمًا قريب المنال. فقد ضاعفت الوكالة فى ظل الرئاسة المصرية جهودها فى دفع تنفيذ الخطة العشرية الثانية لأجندة ٢٠٦٣، وأسرعت الخُطى فى تحديد وحشد التمويل لمشروعات البنية التحتية المدرجة لتصل قيمتها إلى 500 مليون دولار، كما عملت على الإسراع بوتيرة تنفيذ ممرات البنية التحتية بما يعزز جهود الاندماج الإقليمى. إن فرص التكامل الأفريقى والاندماج الإقليمى هما الأمل الوحيد للنهوض بهذه القارة العذراء كثيرة الثروات عظيمة التحديات، ويظل الأمن والسلم والتنمية الاقتصادية هى الطريق لتحقيق آمال وطموحات شعوب تستحق أن تحيا.