عندما تدفعنا الحفر للتغيير.. شهداء كفر السنابسة ينبهون الحكومة من سباتها

عندما تدفعنا الحفر للتغيير.. شهداء كفر السنابسة ينبهون الحكومة من سباتها

موت مجاني، وسكوت رسمي، وحياة لا تُقدّر إلا إن كان الرئيس في الصورة.

 في مشهد يتكرر أكثر مما ينبغي، استيقظ المصريون منذ أيام قليلة على كارثة جديدة، لا من الكوارث الطبيعية ولا من مؤامرة كونية، بل من تلك التي نصنعها بأنفسنا بإتقان.. حادث مروع على الطريق الإقليمي، راح ضحيته 19 زهرة من بنات كفر السنابسة، التابعة لمركز منوف بمحافظة المنوفية. أرواح صعدت إلى السماء، وقلوب أمهات تقطعت على قارعة طريقٍ ما زال يحمل صفة “الإقليمي”، رغم أنه يصل بيننا وبين الموت أكثر مما يصل بين المحافظات.لكن المفاجأة ليست في الحادث ذاته، فالطريق الإقليمي ليس جديدًا في لعب دور البطولة في مشاهد الدم والدموع. الجديد – الذي يستحق فعلاً التأمل – هو أن الدولة قررت فجأة أن “تتحرك”، ولكن كالعادة، بعد أن دق الرئيس الجرس.في أعقاب الحادث، تحركت كاميرات التليفزيون الحكومي والخاص أسرع من سيارات الإسعاف، وانطلقت تصريحات الشجب والتعازي من فوهات المسؤولين وكأنها محفوظة مسبقًا. ثم جاء وزير النقل، حاملاً على كتفيه عبء الزيارة الميدانية التي لا تأتي إلا بعد الكارثة. تفقد الطريق، وقف أمام الكاميرات، وعد بإجراءات “فورية”، ثم عاد إلى العاصمة وهو يردد في سرّه: “اللهم اجعلها آخر الأحزان.. هذا الشهر”.وبينما الوزير يتفقد وعوده، ووسائل الإعلام تحتفي بـ”التحرك العاجل”، سأل الناس سؤالًا بسيطًا ومعقدًا في آن واحد: هل باتت الحكومة لا تتحرك إلا بعد تدخل الرئيس؟ هل أصبحت حياة المواطنين رهنًا بنبضات قلب في قصر الرئاسة؟ وماذا عن آلاف الطرق المهترئة الأخرى؟ هل تنتظر كل قرية فيها حادثًا مروعًا لتلفت انتباه الحكومة؟ أم نحتاج إلى خدمة توصيل “كارثة إلى مكتب الوزير” ليستجيب المعنيون؟المؤسف أن السؤال بات يحمل في طياته سخرية لا تقل ألمًا عن المأساة نفسها. كأننا في عرض مسرحي عبثي، لا يبدأ المشهد إلا بعد دخول الرئيس على الخشبة، ليكتشف الجمهور أن بقية الممثلين لا يحفظون دورهم أصلاً.كفر السنابسة، اليوم، ليست مجرد قرية، بل مرآة لكل قرية نُسيت على هامش الخريطة. ضحاياها ليسوا فقط 19 بنتًا، بل عشرات الملايين الذين يسيرون يوميًا فوق طرقٍ تفتقر إلى أبسط مقومات السلامة، ينتظرون دورهم في مسلسل “اللا مبالاة”.وبعد زيارة الوزير، صدرت القرارات المعتادة: صيانة عاجلة، تحقيقات موسعة، دعم للأسر المنكوبة. كل شيء يُنفذ الآن — بعد أن فات الأوان.لكن لا بأس، فقد اعتدنا أن تتحول الكارثة إلى فرصة.. فرصة للعمرة المجانية، ووظيفة حكومية، وربما شقة في مشروع سكني! بشرط واحد فقط: أن يكون الضحية قد “أتم مهمته” بنجاح وغيّبه الموت. يبدو أن الدولة، باجتهاد غير مسبوق، استطاعت أخيرًا ابتكار نظام “الاستحقاق بعد الوفاة”، أو ما يمكن تسميته — توخيًا للشفافية — برنامج التمكين عبر التشييع.فبدلاً من تقديم شهادة جامعية أو اجتياز اختبار وظيفة، يكفي أن تُرفق بطلب التعيين شهادة وفاة من الدرجة الأولى، يفضل أن تكون في حادث جماعي ولها تغطية إعلامية لائقة. عندها تفتح لك أبواب الجهاز الإداري للدولة على مصاريعها، بلا مسابقات ولا انتظار. وكأن الوطن صار يقول للمواطن: “قدّم شهيدك.. وخُذ فرصتك”. لا تسأل عن عدالة، ولا عن فرص متساوية. العدالة هنا تُوزَّع بالنعوش، لا بالنقاط، والدولة لا تتذكر أبناءها إلا إذا صاروا صورًا على بوسترات العزاء.في جمهورية الأقدار المؤجلة، لا يُفتح ملف طريق إلا بعد أن يُفتح ملف عزاء، ولا تتحرك الدولة إلا بعد أن يسقط أول “دفتر شهداء”. وهذه المرة، جاء الدور على بنات الفيوم، اللاتي خرجن بحثًا عن لقمة عيش، فعُدن بين قتيلة وجريحة.. في نعوش الإسفلت.الميكروباص كان مكتظًا بحياة صغيرة. أعمارهن بين 12 و17 عامًا — من يفترض أن يكنّ في المدرسة أو بيوت آمنة، لا على قارعة صحراء تلتهم السيارات كما تلتهم الوزارات ميزانيات الصيانة. على الطريق الصحراوي، بعد مدخل مدينة السادات باتجاه الإسكندرية، انقلب الحلم إلى كابوس. عشرات الجثث والصرخات والدماء، كلها مختلطة برمال الطريق، تحت شمس لا ترحم.وليس هذا الحادث الأول، ولا سيكون الأخير، ما دمنا نقيس التحرك الرسمي بعدد النعوش، لا بعدد الثقوب في الأسفلت. ميكروباصات مهترئة، طرق غير آدمية، ومقاولون يتقنون الردم أكثر من الرصف. والنتيجة؟ أرواح تُزهق كل يوم في حوادث أصبحنا نحفظ مواقعها كما نحفظ أسماء الوزراء.. الذين لا نراهم إلا بعد النكبات.تخيل أن ثروات تُفقد — ليس فقط من سيارات تُحطم أو أجساد تُدفن — بل من أحلام كانت في طريقها لأن تكون شيئًا. من أهالٍ دفعوا آخر ما يملكون ليجدوا أنفسهم يستقبلون الجثامين لا المرتبات. من وطنٍ ينزف كفاءته في كل حادث، ثم يدّعي أنه “يتحرك بقوة”.وبعد كل حادث، تُكتب البيانات: “تم إرسال سيارات الإسعاف”.. “وجه الرئيس الحكومة بالتحقيق”.. “زار الوزير الموقع وقرر تشكيل لجنة” وكأننا نعيد ذات المشهد بديكور مختلف.هنا نسأل السؤال الذي صار أثقل من الدم نفسه: هل باتت حياة المواطن المصري مرهونة بتدخل رئاسي؟ هل يلزم أن يرى الرئيس الجنازة بنفسه حتى تتحرك الدولة؟ هل نحتاج إلى رئيس وزراء على دراجة نارية يتفقد كل طريق بنفسه لنضمن أنه لن يقتلنا؟نحن نعيش في بلد، لا يموت فيه الناس بسبب أقدار السماء، بل بسبب الإهمال البشري، والروتين الحكومي، و”الفهلوة” الهندسية. وفي كل مرة، نُكفّن ضحايانا بأوراق التحقيقات، ونغلق الصفحة.. حتى الحادث القادم.من الفيوم إلى السادات إلى الإسكندرية.. كلها طرق مختلفة، لكن المصير واحد: موت مجاني، وسكوت رسمي، وحياة لا تُقدّر إلا إن كان الرئيس في الصورة.وربما لم نعد نطلب الكثير.. لا نُطالب بمعجزات، ولا بطرق ذكية، ولا حتى بوسائل نقل آمنة. نطلب فقط أن تُقدَّر حياتنا ونحن أحياء، لا أن تُغلف ببيانات النعي بعد الرحيل.صار الحزن جزءًا من جدول الأعمال الرسمي، تُقرأ أسماؤه في نشرات الأخبار، ويُصرف على ضحاياه من الصناديق المغلقة والموازنات الطارئة. وكأن هذا الوطن لم يجد وسيلة ليعبر بها عن امتنانه لأبنائه سوى بعد موتهم.. لا تعليم جيد، لا وظيفة بكرامة، لا طريق آمن، بل فقط تعويضات باردة تأتي بعد فوات الأوان.نحن شعبٌ يودّع أبناءه كل يوم، ثم يُسكت ألمه بصوت المسؤولين وهم يتعهدون من جديد. نعيش بين مواعيد الوعود، ومواكب العزاء.وفي النهاية، لا نطلب أكثر من أن يرانا أحد.. قبل أن نُصبح صورة على جدار، أو رقماً في بيان عاجل.