جولة داخل قصر ذكريات بيل جيتس “3”

لماذا يكتب بيل جيتس الآن مذكراته؟!
لم يترك لي بيل جيتس فرصة للتساؤل، فجاءت الإجابة ضمن صفحات الكتاب فيقول “- بدأتُ قبل عدة سنوات فترة تأمل. كان أطفالي الثلاثة يسيرون بخطى ثابتة في حياتهم. شهدتُ التدهور البطيء لوالدي ووفاته بسبب مرض الزهايمر. بدأتُ أبحث في الصور القديمة، وأوراق العائلة، وصناديق التذكارات، مثل التقارير المدرسية التي احتفظت بها والدتي، بالإضافة إلى نسخ مطبوعة من برامج الكمبيوتر لم أرها منذ عقود. بدأتُ أيضًا بالجلوس لتسجيل ذكرياتي، وحصلتُ على مساعدة في جمع القصص من أفراد عائلتي وأصدقائي القدامى. كانت تلك هي المرة الأولى التي أبذل فيها جهدًا متضافرًا لأرى كيف يمكن لجميع الذكريات القديمة أن تُعطيني فكرة عن هويتي الحالية”. جمع بيل جيتس فى مذكراته، بين المنفعة ومسرّة النظر إلى المراحل الأولى من ولادة عبقرية واثقة تتحلى بالنباهة والانضباط والتوثب والتأهب. أجمل ما في الأمر أن البوابة التي كانت مفتوحة قيد أنملة تتيح لمحات من ذلك العالم، باتت اليوم مُشرعة. يستعير الكتاب مصطلح المبرمجين: “الكود المصدري” (Source Code) كتعبير مجازي عن الأسس التي بنى عليها جيتس نجاحه. كما يبدو أنه إشارة إلى أسلوب مستمد من تفضيلات جيتس في البرمجة، إذ يعتمد على أكواد “فعّالة وبسيطة” كانت ضرورية في عصر الكمبيوترات محدودة القدرات في العصر الذي يتناوله الكتاب. اكتشف بعدها خلال دراسته في هارفرد أن طالباً مثلَه، رغم براعته الفذة في الرياضيات، لا يتمتع بموهبة الإلهام اللازمة لتحقيق اكتشافات جوهرية في هذا المجال. يترك جيتس للقارئ أن يعزو مواهبه – مثل قدرته على الاكتفاء بقسط قليل جداً من النوم، وقناعته منذ الطفولة بأن لكل شيء إجابة، بالإضافة إلى تفكيره المنطقي وقدرته على التركيز لفترات طويلة – إلى والديه وأجداده، وخاصة جدته البارعة في لعب الورق، وأيضاً إلى الحظ الذي أتاح له استخدام كمبيوتر قبل معظم المراهقين في العالم. يصحبنا جيتس، في رحلة عبر أربع من مراحل نشأته. بدأت بطفولة فوضوية اختلف فيها عن الآخرين، فكان يتعمق في التفكير، وفي الوقت نفسه يتجاهل تماماً “طقوس الحياة اليومية والمدرسية، كالكتابة بخط اليد والفنون والرياضة”. ثم انتقل إلى مرحلة أصعب، بدأت مبكراً حين كان في التاسعة، حين تحول، كما وصفه والده، إلى “راشد بين ليلة وضحاها.. مولع بالجدل، قوي الحجج الفكرية، وأحياناً غير لطيف”. بدأت المرحلة الثالثة في سنته المدرسية الثامنة، فقد دخل الطموح حياته، بإلهام من صديقه الراحل كينت إيفانز، وتعامل مع كمبيوتر لأول مرة. أما المرحلة الرابعة والأخيرة، فكانت نسخة تجريبية من جيتس كمدير تنفيذي، يدير عملاً تجارياً وهو ما يزال طالباً في الثانوية ثم في جامعة هارفرد، ليتحول إلى منافس وزميل وقائد شرس مهووس بالحفاظ على التفوق المبكر لـ”مايكروسوفت” . مع بلوغه سنته الدراسية الرابعة في مدرسة رسمية مكتظة، كان جيتس “يمضي أياماً دون أن ينطق بكلمة، ولا يغادر غرفته إلا لتناول الطعام أو الذهاب إلى المدرسة”. سئم والداه من تجاهله وإهاناته لهما، فاستعانا بطبيب نفسي . في مراهقته، كان جيتس يذهب في رحلات تنزه في الجبال تمتد لأسبوع مع أصدقائه دون إشراف، بل إنه في إحدى المرات تسلل من المنزل في جنح الظلام واستقل حافلةً ليمضي ليلته في مختبر كمبيوتر. كل هذه العوامل كان من شأنها أن تقود إلى النجاح في مجالات شتى، إلا أن نجاحه الاستثنائي في عالم البرمجيات ما كان ليتحقق لولا سلسلة مذهلة من الصدف والفرص بدأت في 1968. وهذا مكمن التشويق في الكتاب . لا يزال جيتس يتعجب من أن مدرسته الثانوية الخاصة “ليكسايد” في سياتل كان يمكنها أن تتصل بكمبيوتر في كاليفورنيا عبر مبرقة كاتبة —آلة تشبه الآلة الكاتبة الكهربائية لها وسيلة تواصل بالكومبيوتر — بفضل فكرة عابرة خطرت لمدرّس رياضيات، و”لم يكن أحد يعرف كيف يستخدمها”. كان ذلك في وقت لم تكن فيه المنازل أو المدارس الثانوية تملك شيئاً يشبه ذلك. سرعان ما فتحت تلك الصدفة أبواب الفرص أمامه . في البداية، سمحت شركة لتأجير الوقت على الكمبيوتر كانت على شفير الإخفاق لجيتس وأصدقائه “ليكسايد”، ومنهم بول ألين، باستخدام حاسوب مركزي لاكتشاف أخطاء البرمجيات. ثم أطلقت “ليكسايد” مشروعاً طموحاً لأتمتة جداول كافة الصفوف، ما تطلب من الطلاب والمعلمين أن يعملوا لليال لإنجازه. بعد ذلك، طرأت حاجة ماسة لمبرمجين لدى إدارة كهرباء بونفيل—الوكالة الاتحادية المسؤولة عن توزيع الكهرباء في معظم مناطق الشمال الغربي المطل على المحيط الهادئ—لإكمال مشروع حاسوبي تخطى نفقاته . حصل جيتس، الذي كان في سنته الأخيرة في الثانوية، على إذن بالتغيب لمدة شهرين للانتقال إلى فانكوفر بولاية واشنطن، على بُعد 280 كيلومتراً من منزله، ليعمل لدى “بونفيل” إلى جانب بول ألين، الذي حصل بدوره على إجازة من الجامعة. في 1975، بينما كان جيتس يدرس في هارفرد، وقع بول ألين على مقال عن شركة “إم أي تي إس” (MITS) في ألبوكيركي التي ابتكرت أول مجموعة حواسيب منزلية. كان الجهاز بدائياً، ونموذج العمل بسيط، ميزته الوحيدة الحصول على خصومات كبيرة على معالجات “إنتل”. أدرك ألين وغيتس أن هذه الأجهزة عديمة الفائدة عملياً، بما أن أحداً لم يكن قد طور برامج إلكترونية لها. ومن هنا نشأت “مايكروسوفت”، الشركة التي قادت ثورة أجهزة الكمبيوتر الشخصية. يكشف بيل جيتس عن “أروع شيفرة برمجية كتبها”! بمناسبة اقتراب الذكرى الخمسين لتأسيس إمبراطورية البرمجيات “مايكروسوفت”، قام المؤسس الأسطوري بيل جيتس بمشاركة الكنز الأول للشركة مع العالم: الشيفرة المصدرية الأصلية للغة البرمجة BASIC! ، هذه الشيفرة الأيقونية، التي كتبها بيل جيتس بنفسه بالتعاون مع شريكه الراحل بول ألين في مختبرات جامعة هارفارد العريقة خلال السبعينيات (باستخدام حاسوب PDP-10 العملاق وقتها!)، هي التي وضعت حجر الأساس لما نعرفه اليوم باسم مايكروسوفت. بيل جيتس عبّر عن اعتزازه بهذا العمل قائلاً في مدونته: “لا تزال هذه الشيفرة أروع شيفرة كتبتها حتى يومنا هذا. ما زلت أستمتع برؤيتها، حتى بعد كل هذه السنوات”. والآن، يمكن لأي شخص مهتم بتاريخ التقنية أو البرمجة الاطلاع على هذا الإرث الرقمي، حيث تم نشره كملف PDF ممسوح ضوئياً يتكون من 157 صفحة. فرصة لا تعوض لإلقاء نظرة على الكود الذي ساهم في تغيير العالم! التقني وصف جيتس هذا العمل البرمجي بأنه “أروع شيفرة كتبتها في حياتي”، مما يعكس فخره بما أنجزه في بدايات مسيرته. في تدوينته، أشار جيتس إلى أنه استلهم هذه الفكرة من عدد مجلة Popular Electronics الصادر في يناير 1975، الذي تضمن صورة للكمبيوتر الشخصي Altair 8800، الذي كان أحد أجهزة الكمبيوتر الرائدة التي ابتكرها شركة صغيرة تُدعى MITS. كان جيتس، في ذلك الوقت، في التاسعة عشرة من عمره، وكان يدرس في جامعة هارفارد. مع صديقه بول ألين، تواصل جيتس مع مطوري Altair وأخبرهم أنهما يمتلكان نسخة من لغة البرمجة BASIC التي يمكن تشغيلها على معالج Altair 8800، مما يسمح للمستخدمين ببرمجة الجهاز. لكن، كما اعترف جيتس في تدوينته، “كانت هناك مشكلة واحدة، وهي أننا لم نكن قد كتبنا الشفرة ، بعد هذه البداية المربكة، عمل جيتس وألين ليلاً ونهارًا لمدة شهرين كاملين لكتابة الشفرة البرمجية التي وعدا بها، وفى النهاية، كانت تلك الشفرة مصدر انطلاق مايكروسوفت نحو التاريخ. بفضل مايكروسوفت، أصبح جيتس أغنى رجل في العالم عام 1995 وظل في الصدارة في قائمة فوربس حتى عام 2008، عندما قرر الابتعاد عن الشركة والتركيز على أعماله الخيرية. منذ ذلك الحين، تجاوزته أسماء بارزة في عالم التكنولوجيا مثل إيلون ماسك ومارك زوكربيرغ في التصنيف. ومع ذلك، استمرت ثروة غيتس في الزيادة منذ عام 2008، حتى مع احتساب التضخم. اليوم، وهو في سن 69، ويحتل المرتبة الثالثة عشرة في قائمة أغنى الأشخاص على قيد الحياة، بالإضافة لتواصله مع قادة العالم، وتمتعه بسمعة أفضل بكثير من زملائه من كبار رجال التكنولوجيا. مما منحه فرصًا غير مسبوقة للوصول إلى صناع القرار حول العالم. على سبيل المثال، التقى مع شي جين بينج في 2023، وكان له أيضًا عشاء طويل مع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب. خلال العشاء، تحدث جيتس مع ترامب عن العلاجات المحتملة لفيروس نقص المناعة البشرية وشلل الأطفال، كما تحدث كثيرًا مع قادة العالم. في الأشهر الأخيرة، تحدث مع الرئيس الفرنسي ماكرون، ورئيسة مفوضية الاتحاد الأوروبي أورسولا فون دير لاين”. .. وستكمل معا.. قراءة الفصل الأخير من الجزء الأول لمذكرات بيل جيتس.