“بولتيكو”: صدى ثورة ترامب في أوروبا.. تحول سياسي يعيد هيكلة الهويات والتحالفات في القارة.

“بولتيكو”: صدى ثورة ترامب في أوروبا.. تحول سياسي يعيد هيكلة الهويات والتحالفات في القارة.

بينما تتجه أنظار العالم إلى لاهاي حيث يجتمع قادة حلف شمال الأطلسي (ناتو)، تجتاح أوروبا رياح سياسية غير مألوفة، تتجاوز ملفات الدفاع والردع لتطال العمق السياسي والهوية الوطنية لدول القارة العجوز. ففوز دونالد ترامب بولاية رئاسية ثانية في الولايات المتحدة لم يكن مجرد حدث أمريكي داخلي، بل كان بمثابة شرارة أعادت رسم المشهد السياسي الأوروبي وأطلقت ما يمكن تسميته بـ”ثورة ترامب الأوروبية”.

وفي مقال رأي نُشر في مجلة “بوليتيكو” بقلم إيفان كراستيف ومارك ليونارد، وهما من أبرز الباحثين في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، سلّط الكاتبان الضوء على التحولات المتسارعة داخل أوروبا في أعقاب إعادة انتخاب ترامب، مؤكدَين أن تأثير “الثورة الترامبية” لا يقتصر على العلاقات عبر الأطلسي، بل يمتد ليعيد تشكيل الخطوط الفاصلة بين اليمين المتطرف والتيارات التقليدية، ويقلب مفاهيم السيادة الوطنية والتحالفات الجيوسياسية رأسًا على عقب. وأشار الكاتبان إلى أن فوز ترامب بولاية ثانية أثار موجة سياسية متصاعدة عبر أوروبا، دفعت عدداً من الدول والأحزاب إلى إعادة تعريف هوياتها السياسية والجيوسياسية، في تحول وصفه محللون بـ”الثورة الترامبية” العابرة للمحيط الأطلسي. ووفقًا لتحليل نُشر في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، فإن أوروبا لم تتأثر فقط بخطاب ترامب الهجومي ضد الحلفاء، بل بتهديده المباشر لسيادة الدول الأوروبية. وتُعد الدنمارك أبرز مثال على ذلك، حيث أظهر استطلاع رأي أن 86% من مواطنيها يرون النظام السياسي الأمريكي “منهارًا”. وأشار التحليل إلى أن فوز ترامب دفع الأوروبيين، على نحو غير مسبوق، إلى التعامل بجدية مع ملف الأمن والدفاع، في ظل تصاعد المخاوف من اندلاع نزاع نووي أو حرب عالمية جديدة. وتُظهر نتائج الاستطلاع أن غالبية الأوروبيين تؤيد اليوم زيادة الإنفاق الدفاعي، وتقديم الدعم لأوكرانيا حتى في حال انسحاب الدعم الأمريكي، بل حتى فرض الخدمة العسكرية الإلزامية في بعض الدول. والمفارقة اللافتة – بحسب التقرير – أن الأوروبيين، رغم إدراكهم لمخاطر إدارة ترامب، ما زالوا يثقون بأن الرئيس الأمريكي لن يسحب قواته من القارة، ويأملون في أن تعود العلاقات عبر الأطلسي إلى طبيعتها بعد انتهاء ولايته. أما على الصعيد الحزبي، فقد أدت الثورة الترامبية إلى تحولات عميقة داخل المشهد السياسي الأوروبي؛ حيث تحوّل اليمين المتطرف من معارضة الاتحاد الأوروبي إلى قيادة حركة قومية عابرة للحدود، تتبنى رؤى ترامب حول الهجرة والبيروقراطية. وبالمقابل، أعادت أحزاب التيار التقليدي – وحتى بعض أكثر الأحزاب الأطلسية تاريخيًا – تقديم نفسها كمدافعة عن السيادة الوطنية في مواجهة ما تعتبره “تدخلاً فكريًا من واشنطن”. ويُظهر الاستطلاع الذي شمل 16 ألف شخص في 12 دولة أوروبية، أن مؤيدي الأحزاب الشعبوية لم يعودوا مجرد أصوات احتجاجية، بل أصبحوا مقتنعين بأن إعادة انتخاب ترامب “أمر جيد للولايات المتحدة”، ويتابعون سياساته بإعجاب. هذا الانقسام الجديد لم يعد بين دول مؤيدة أو معارضة لأمريكا، بل بين أحزاب مؤيدة أو معارضة لترامب. فعلى غرار الانقسام الذي أحدثته حرب العراق عام 2003، لا ينبع التقسيم الحالي من الاختلافات الجغرافية، بل من الاصطفاف الحزبي الأيديولوجي. ويحذر التقرير من أن مصير اليمين المتطرف الأوروبي بات مرتبطًا بمصير ترامب نفسه؛ فإن تراجعت شعبيته، فستخسر هذه الأحزاب زخمها، تمامًا كما تأثرت الأحزاب الشيوعية الأوروبية سابقًا بانطباعات الشارع حول الاتحاد السوفيتي. وفي المقابل، تعيد أحزاب تقليدية مثل “الاتحاد الديمقراطي المسيحي” في ألمانيا، والتي لطالما كانت داعمًا قويًا للولايات المتحدة، صياغة نفسها الآن كحصن للسيادة الوطنية في وجه “أمريكا الترامبية”. وختم التحليل بالقول إن أوروبا تقف اليوم على مفترق طرق سياسي وتاريخي. وكما قال الثوري الفرنسي لويس سان جوست: “النظام القائم اليوم، هو فوضى الغد”.