سايكس بيكو والشرق الأوسط المعاصر: من التقسيم إلى الانقسام؟

قبل أكثر من قرن، وتحديدًا في عام 1916، وقّعت بريطانيا وفرنسا اتفاقًا سريًا، عُرف لاحقًا باتفاقية “سايكس – بيكو”، لتقاسم النفوذ في أراضي الدولة العثمانية بعد سقوطها. ولعل ما لم يدركه الكثيرون آنذاك، أن هذه الاتفاقية لم تكن مجرد رسم حدود على ورق، بل كانت إعلانًا لبداية تمزق طويل وممتد في جسد الشرق الأوسط، لا تزال آثاره تتردد حتى اليوم.
سايكس – بيكو: البداية الخادعة. أُبرمت الاتفاقية بين الدبلوماسي البريطاني مارك سايكس والفرنسي جورج بيكو، وبدت حينها وكأنها ترتيب مؤقت لتسهيل السيطرة على المناطق التي كانت تابعة للخلافة العثمانية. لكن الحقيقة أن الاتفاق أنشأ كيانات سياسية لا تستند إلى منطق التاريخ أو الجغرافيا، بل إلى مصالح استعمارية صرف.قُسمت المنطقة إلى مناطق نفوذ: لبنان وسوريا لفرنسا، والعراق والأردن وفلسطين لبريطانيا. تم تجاهل هوية الشعوب، وتمزقت القبائل، وانفصلت المكونات الطائفية، ليتحول الشرق الأوسط إلى فسيفساء هشة قابلة للاشتعال في أي وقت.الشرق الأوسط الجديد: هل هو إعادة إنتاج لسايكس – بيكو؟منذ بداية القرن 21، ومع اشتعال الحروب في العراق وسوريا واليمن، عاد الحديث عن “شرق أوسط جديد”، تشكّله قوى دولية وإقليمية وفق خرائط المصالح. لم يعد الهدف تقسيم النفوذ بين دولتين كما في الماضي، بل إدارة المنطقة عبر صراعات داخلية وحروب وكالة.في العراق، ظهرت دعوات للفيدرالية، وفي سوريا خرجت مناطق عن سيطرة الدولة، وفي ليبيا انقسمت السلطة، وفي فلسطين لا يزال الاحتلال يُكرّس أمرًا واقعًا جديدًا. حتى التحالفات الإقليمية الجديدة – كاتفاقات التطبيع – تُقرأ أحيانًا على أنها محاولات لتثبيت خارطة سياسية واقتصادية جديدة.سايكس – بيكو 2: بالسلاح لا بالحبر. اليوم، لا تُرسم الخرائط على الطاولة، بل تُرسم في الميدان. التدخلات العسكرية، وتغيّر الولاءات، وتحركات الميليشيات، كلها أدوات رسم الخريطة الحديثة. وإذا كانت سايكس – بيكو الأولى قد تمت في الخفاء، فإن الثانية تُبثّ على الهواء مباشرة.فبعد مرور أكثر من 100 عام على سايكس – بيكو، لا تزال شعوب المنطقة تعاني من آثارها. وإذا كان التاريخ لا يُنسى، فإن الدروس فيه أيضًا لا يجب أن تُهمل. فالمطلوب اليوم هو مشروع عربي حقيقي، يعيد صياغة المنطقة بإرادة أبنائها، لا أن ننتظر خريطة جديدة تُرسم من خارج الحدود.الشرق الأوسط الجديد لن يكون أكثر روعة من القديم، ما لم نكن نحن صُنّاعه.