شحاتة زكريا يكتب: من القاهرة إلى غزة.. كيف أمنت مصر استقرار المنطقة؟

في خضمّ عاصفة لا تهدأ من الصراعات والحروب والتحولات الجيوسياسية، تبرز القاهرة كالعاصمة الوحيدة التي لا تزال تمتلك مفاتيح الاتزان، وحسّ القيادة، وخبرة التاريخ. فحين تتقاطع الدماء على أبواب غزة وتتخبّط الحسابات بين تل أبيب وطهران ويضيع الصوت الفلسطيني وسط صدى الصواريخ تتقدّم مصر وحدها لتُعيد ضبط الإيقاع وترسم حدود الانفجار وتفتح نوافذ الأمل في جدران الانغلاق. السؤال الآن: كيف فعلتها القاهرة؟ وكيف حافظت على مكانتها كـ”شبكة أمان” لا غنى عنها في أكثر مناطق العالم التهابًا؟
لم يكن دور مصر وليد لحظة بل نتاج مسار طويل بدأ من كامب ديفيد مرورا بأوسلو ثم اتفاقيات المصالحة الفلسطينية، وصولا إلى وساطات التهدئة الأخيرة بين حماس وإسرائيل. وبين كل مرحلة وأخرى كانت القاهرة تُثبت أنها الطرف الوحيد الذي يتحدث إلى الجميع دون انحياز ويمسك بخيوط اللعبة دون أن يُغرق يده في الدماء ويقنع الفرقاء بأنه ليس طرفا في الصراع، بل ضامن لمنع انفجاره.في العدوان الأخير على غزة وبينما احترقت المباني وتصدّعت الأرواح تقدمت مصر سريعا: مبعوثون إلى تل أبيب وآخرون إلى رام الله وغزة واجتماعات ماراثونية في العلن والخفاء لتثبيت تهدئة ومنع اتساع الرقعة إلى مواجهة إقليمية شاملة. لم يكن الأمر سهلا لكن القاهرة امتلكت ما لم يمتلكه غيرها: ثقة كل الأطراف.فالإسرائيلي رغم عناده يعلم أنه لا هدنة بدون مصر والفلسطيني رغم الألم.يدرك أن لا معبر يُفتح ولا جريح يُنقل ولا إعمار يبدأ دون قرار مصري. ولأن الوساطة وحدها لا تكفي بنت مصر “شبكة أمان” فعلية: دبلوماسية متماسكة ومعابر تحت السيطرة وأجهزة تعمل على مدار الساعة وتواصل مفتوح مع كل العواصم المعنية من واشنطن إلى طهران. شبكة لا تكتفي بإطفاء النيران بل تُراقب مَن يشعلها وتُعيد ضبط المعادلات كلما اختلّ التوازن.أكثر من ذلك أطلقت مصر ما يمكن وصفه بـ”الديبلوماسية الصلبة” — حيث لا تكتفي بالبيانات، بل تحرّك الطائرات والمساعدات والمستشفيات الميدانية، وتجهز سيناء على عجل لاستقبال المصابين وتنسّق مع شركاء الخليج لتوفير التمويل، وتُمارس الضغط السياسي متى احتاج الموقف وتفتح نوافذ الحوار في عزّ الضجيج.ما لا يقال كثيرا أن دور مصر لم يكن لحماية غزة فقط بل لحماية المنطقة كلها. فكل عدوان على القطاع يحمل في طياته احتمالات الانفجار الإقليمي: من إشعال الجبهة الشمالية مع حزب الله إلى تمدّد النار إلى الضفة، إلى دخول إيران على خط المواجهة. ومصر بخبرتها تعلم أن الحرب إذا اشتعلت بهذا الشكل فلن يُطفئها أحد.في هذا السياق تتحرك القاهرة بذكاء مركّب: فهي تُدين العدوان الإسرائيلي وتضغط على المقاومة لضبط الإيقاع وتُنذِر الجميع بأن أي تصعيد سيتجاوز الخطوط الحمراء. وفوق هذا تقدم نفسها باعتبارها الوحيدة القادرة على جمع ما لا يُجمع: فتح وحماس، السلطة والمقاومة، الغرب والشرق، إسرائيل والفصائل. لا لأن مصر تُجامل أحدًددا بل لأن وزنها لا يزال قائما على شرعية تاريخية وثقة واقعية.لكن هذا الدور ليس مجانيا. فمصر في كل مرة تُقدم من رصيدها: مالا، وجهدا، ومخاطرة سياسية. ومع ذلك فإنها لا تطلب ثمنا بل تسعى إلى ما هو أكبر: استقرار الإقليم. لأن القاهرة تعرف جيدا أن نيران غزة إن اشتعلت بلا كابح فلن تتوقف على حدود رفح بل ستتسلّل إلى العمق المصري كما حدث في 2007 و2011، حين اختلط الأمني بالسياسي وغرقت الحدود في الفوضى.من هنا تتعامل مصر مع ملف غزة كملف أمن قومي لا قضية خارجية. ولذلك لا تُغلق المعبر إلا للضرورة القصوى ولا تترك الحوار يُدار من الدوحة أو أنقرة أو طهران ولا تسمح بأن تُفرض حلول من خارج البيت العربي. والأهم أنها لا تكتفي بالتحرّك في الأزمات بل تعمل في الفترات الهادئة على ضبط المعادلة الفلسطينية – الفلسطينية ولو جزئيا عبر اتفاقات المصالحة ودعم السلطة وتوفير قنوات التواصل المستمرة. وقد يقول قائل إن هذا الدور تآكل أو ضعف وإن قوى إقليمية أخرى تحاول منافسة مصر عليه. وهذا صحيح إلى حد ما لكنه لا يلغي حقيقة أن تلك القوى مهما بلغت مواردها لا تملك الوزن السياسي ولا الخبرة الأمنية ولا العمق التاريخي الذي تملكه القاهرة. ولذلك تُعاد البوصلة دائما إلى مصر عندما تشتدّ الأزمات. في النهاية ليست المسألة من يمسك الميكروفون في المؤتمرات الصحفية بل من يمسك بالخيوط الفعلية في الكواليس. ومصر برغم كل ما تمر به داخليا لا تزال هي من تُمسك بهذه الخيوط وتُعيد نسج الأمن في رقعة تمزّقت منذ عقود. إنها شبكة الأمان لا لأن أحدا منّ عليها بها بل لأنها الوحيدة التي ما زالت تؤمن بأن المنطقة لا تُبنى بالصراخ، بل بالعقل، ولا تُدار بالتخريب، بل بالحكمة. ومن القاهرة إلى غزة هذا هو الخط الفاصل بين الانفجار والتهدئة.