نهى برادة: المرأة وراء ديكور المسرح وكواليس “المشاغبين” و”ريا وسكينة” و”سيدتي الجميلة”

نهى برادة: المرأة وراء ديكور المسرح وكواليس “المشاغبين” و”ريا وسكينة” و”سيدتي الجميلة”

في عالم تتسارع فيه وتيرة التغيير، تبقى هناك أيادٍ مبدعة ترسخ جذور الفن وتصنع تاريخًا يُروى.

 نستضيف اليوم قامة فنية تجاوزت حدود الإبهار، وحوّلت مجرد الخشبة إلى عوالم تضج بالحياة والجمال.  إنها نهى برادة، الملقبة عن جدارة بسيدة الديكور المسرحي، فنانة لم تكتفِ بتصميم أكثر من 200 عمل مسرحي، بل نسجت من خيوط الخيال واقعًا ملموسًا، ورسمت تفاصيل حكايات خالدة “مدرسة المشاغبين” إلى “ريا وسكينة”. كل زاوية، كل خط، كل لون في أعمالها يحمل بصمة روحها الفنية وعبقرية رؤيتها. نغوص اليوم معًا في أعماق مسيرتها الاستثنائية، لنكتشف كيف يتشكل الشغف ويترسخ الإبداع في قلب “أبو الفنون”.  حوارها لـ“بوابة روز اليوسف” يحمل بين طياته أسرار رحلة فنية لم تكتمل فصولها بعد، فلنستمع. كيف أشعل أوبريت “الليلة الكبيرة” شرارة شغفكِ بهذا المجال الساحر؟بعد تخرجي من الثانوية العامة، كان قسم الديكور بكلية الفنون الجميلة وجهتي الطبيعية. لقائي بالدكتور ناجي شاكر، رئيس القسم، كان نقطة تحول حقيقية. كان الدكتور ناجي يعمل على أول مشروع لمسرح العرائس في مصر، وبتصميمه المذهل لعرائس أوبريت “الليلة الكبيرة” الأسطوري، وقعتُ في غرام هذا المجال. لم تكن تلك ممارستي الاحترافية الأولى، لكنها زرعت في داخلي بذرة الشغف التي تفتحت بالكامل فور تخرجي. وسط عائلة معظمها من الأطباء، كيف وجدتِ طريقكِ لتصبحي مهندسة ديكور وفنانة تشكيلية؟في الحقيقة، كنتُ على وشك الالتحاق بكلية طب الأسنان. ولكن موقفاً بسيطاً وغريباً مررتُ به أثناء زيارة للكلية، وتحديداً بعض المسلكيات غير المعتادة التي لم أجدها في دراستي الثانوية بمدرسة الراهبات، دفعني لرفض الانضمام. لكن شغفي بالرسم كان قوياً منذ الصغر. جدي لوالدي، وكيل وزارة المعارف آنذاك، كان سبّاقاً في ملاحظة موهبتي، ووفر لي كل الفرش والألوان لتنميتها.هذا الدعم المبكر مكّنني من الرسم باحترافية منذ صغري، ومع تخرجي في كلية الفنون الجميلة، تجسد الحلم في مهندسة ديكور وفنانة تشكيلية. يقال إن اسمكِ بدأ يلامس شهرة ابن عائلتكِ، جراح المخ والأعصاب العالمي يوسف برادة. كيف تنظرين إلى هذا التقدير؟(بابتسامة) أتذكر جيداً تعليق يوسف عندما امتلأت الشوارع بإعلانات تحمل اسمي كمصممة ديكور لعديد المسرحيات. قال وقتها: “إن اسم عائلة برادة بدأ في الانتشار بفضل نهى برادة!”. كان هذا تعليقاً لطيفاً منه، رغم أنه كان عالماً فذاً قدم للبشرية الكثير جداً في مجال المخ والأعصاب، وأعماله بلا شك كانت أهم وأفيد بكثير مما قدمته أنا في مجال الديكور، حتى لو كنتُ من أوائل دفعتي. كيف كانت انطلاقتكِ في عالم الديكور المسرحي خلال الستينيات؟الستينيات كانت فترة ذهبية للمسرح. السيناريست والمخرج الكبير السيد بدير أسس عشر فرق مسرحية، كل فرقة كانت تقدم رواية أسبوعياً. هذا النشاط الهائل خلق حاجة ماسة لمهندسي ديكور جدد. في ذلك الوقت، لم يكن معهد الفنون المسرحية قد تأسس بعد، لذا كان الحل هو الاستعانة بأوائل كليات الفنون الجميلة. كوني من أوائل دفعتي، كان لي الحظ أن أكون جزءاً من هذا الحراك المسرحي الضخم. لمن تدينين بالفضل في تعلم أسرار الديكور المسرحي؟بلا شك، الفضل الأكبر يعود للمهندس الكبير صلاح عبد الكريم. هو من أرشدني لدمج تكنيك العمارة الداخلية والرسم في الديكور المسرحي، وعلّمني أسراره و”شفرات” نجاحه. علمني أن مهندس الديكور الناجح يجب أن يكون قارئاً جيداً للنص، ومبتكراً، وأن يبذل أقصى الجهد لتبقى أعماله خالدة في وجدان “أبو الفنون”. ما هي أبرز أسرار النجاح لمهندس أو مصمم الديكور المسرحي التي اكتشفتيها خلال مسيرتكِ؟السر يكمن في الموهبة أولاً، ثم القدرة على التخيل القوي. يجب أن يمتلك مهندس الديكور إلماماً عميقاً بـ “جو المسرحية” والبيئة العامة للأحداث، سواء كانت حياً شعبياً، أرستقراطياً، أو غير ذلك. ثم يأتي تطبيق هذا الفهم على العرض ليعبر بصدق عن كل ما تتضمنه الرواية. التخيل هو البوابة لكل ذلك. في عصر التكنولوجيا، هل ترين أن التطور أحدث طفرة إيجابية في مجال الديكور المسرحي أم أن له جانبًا آخر؟إنه سلاح ذو حدين، كما أرى. في الماضي، كنا نواجه صعوبة بالغة في تنفيذ الديكورات بسبب ندرة الخامات، حتى ورق الحائط كان يصعب الحصول عليه. كنا نضطر لرسم ديكورات المسرحية بمنظر واحد وبشكل يدوي، وهذا ما طبقته في العديد من أعمالي الأولى، مثل “مطار الحب”، “مدرسة المشاغبين”، و”زهرة الصبّار”. لعمل ديكور حديقة أو غابة، كنا نستخدم وسائل بدائية كقماش الدمور وقصاصات ورق الشجر والجرائد، كما حدث في عرض “بشويش”.أما في “سيدتي الجميلة” الأصلية مع فؤاد المهندس وشويكار، فقد رسمتها ولونتها كنموذج مصغر قبل تكبيرها.الآن، التكنولوجيا تتدخل بقوة باستخدامات عديدة للبانر، والتصوير، والإضاءات. هذا التطور إما أن يتم تنفيذه بدقة عالية فينجح العرض، أو أن يغلب عليه الاستسهال فيؤدي إلى الفشل. الجودة هي المعيار. بلا شك، خبرتكِ في تنفيذ الديكورات بعد تصميمها أضافت لكِ الكثير. ما أهمية هذا التكامل؟نعم، كانت هذه نقطة قوة كبيرة. كنتُ أجيد رسم الإسكتش وعمل الماكيت بنفسي. أؤمن بضرورة أن يكون مهندس الديكور ملماً بتنفيذ تصميماته بنفسه. هذا يضمن خروج العمل متجانساً وقوياً، ويعبر بصدق عن روحه. اللمسة الخاصة والرؤية التي يقصدها المصمم قد تضيع تماماً إذا نفذها شخص آخر، ما لم يتابعها المصمم لحظة بلحظة حتى تتجسد على خشبة المسرح. في مقارنة بين الماضي والحاضر، هل ترين أن الديكور المسرحي قديماً كان يحمل رونقاً خاصاً قد يفتقده الحاضر؟كما قلت، هو سلاح ذو حدين. على الرغم من الإبهار والتكنولوجيا والمواد الخام الأكثر تطوراً المتاحة الآن، أظل منحازة لـ “لمسة يد الفنان القديمة” التي كانت تعبر عن روح الفنان الحقيقية، وتوحي بقوة عن جمال الديكور ودقته بطريقة رائعة. ربما تخلو منها كثير من الأعمال المسرحية الآن، فيغلب عليها عدم الدقة وتفشل في التعبير عن البيئات المتنوعة التي تدور فيها الروايات، فتتشابه جميعاً، بل وتفشل كلها لأنها صُنعت على عجالة وبلا روح. كيف كنتِ تقومين بتصميم المسرحيات قديماً؟تبدأ العملية بقراءة النص المسرحي بتمعن أكثر من مرة. ثم أُطلق العنان لخيالي لأتخيل المشاهد والمناظر الخاصة بالعرض، وبعدها أبدأ في الرسم والتصميم. على سبيل المثال، في مسرحية “ريا وسكينة” عام 1980 مع شادية وسهير البابلي وعبد المنعم مدبولي، صممتُ مشاهد مختلفة لقسم الشرطة، ومنزل ريا وسكينة. وفي “مدرسة المشاغبين” عام 1971 مع عادل إمام وسعيد صالح وأحمد زكي ويونس شلبي، عبرتُ بدقة عن ديكور الفصل المسرحي للمشاغبين، وكان مختلفاً تماماً عن ديكور احتفال التلاميذ بالنجاح في المدرسة. 

 كواليس مع النجوم

ما أبرز ذكرياتكِ مع أبطال المسرحيات التي صممتِ ديكوراتها؟ذكريات كثيرة جداً لا تُحصى! في “مدرسة المشاغبين”، كنتُ أتابع “الإفيهات” والقفشات بين أبطال العرض خلف الكواليس، وعلى رأسهم عادل إمام وسعيد صالح. أتذكر أيضاً الفنان عبد المنعم مدبولي الذي بدأ دور الناظر ثم استبدل بحسن مصطفى الذي كان يقدم دور المدرس الملواني. ومن الطرائف أن سعيد صالح كان مرشحاً لدور “الزعيم مرسي الزناتي” بدلاً من عادل إمام، لكنه فضّل دور “مرسي الزناتي” الذي قدمه. أما في “شارع محمد علي” مع فريد شوقي وشيريهان والمنتصر بالله، فكانت أفيهات “ملك الترسو” فريد شوقي خلف الكواليس شيئاً مبهجاً لا ينافسها إلا قفشات نجم الكوميديا الراحل المنتصر بالله. كيف نجحتِ في تجسيد روح “شارع محمد علي” بتلك الدقة والتفاصيل البارعة؟ذهبت إلى الشارع نفسه! كان لابد من استيحاء المناظر الطبيعية للمكان بكل ما يتضمنه من محلات لبيع الآلات الموسيقية، وقادة الفرق الموسيقية وأشهرها فرقة حسب الله. كما زرتُ حمام الثلاثاء الشهير بالقاهرة، الذي كان وسيلة الاستحمام لمعظم سكان القاهرة حينذاك، حيث كان مطلوباً في أحد مناظر المسرحية. الاستلهام المباشر من الواقع هو سر التفاصيل التي أحرص عليها. 

سهير البابلي: نجمة مسرحية بحس كوميدي فريد

تعاملتِ أكثر من مرة مع نجمة الكوميديا  الراحلة سهير البابلي. ما أهم ذكرياتكِ معها؟عملتُ معها في مسرحيتي “ريا وسكينة” و”على الرصيف”. سهير البابلي نجمة مسرحية من الطراز الأول، وتمتلك حساً كوميدياً عالياً جداً. كانت تضحكني كثيراً في “ريا وسكينة”. كثيراً ما كنتُ أعبر عن إعجابي بأدائها، وكانت ترد بامتنان: “شكراً يا باش مهندسة على ديكوركِ الحلو، يشجعني على التألق يا سيدة الديكور المسرحي”. ماذا عن تجربتكِ الاستثنائية مع الأديب العالمي نجيب محفوظ؟هذا التعاون كان من خلال أول عمل لي في مسرح التليفزيون المصري، عندما صممتُ وأنا في الثانية والعشرين من عمري ديكورات مسرحية “خان الخليلي”. تأليف الأديب العالمي نجيب محفوظ الذي كان يتميز بتواضع شديد جداً ودمث الأخلاق، وبطولة الفنان عماد حمدي وإخراج المخرج حسين كمال، الذي كان يدرس الأزياء في دول أوروبا ثم عاد لممارسة الإخراج في مصر، اقترن اسمي باسم الكاتب الكبير نجيب محفوظ، ومن هنا بدأت مسيرتي مع الديكور. كيف تحققتِ النجاح للمرة الأولى كمصممة ديكور مسرحي بفضل هذا العمل الكبير؟الفضل يعود لتوجيهات الدكتور صلاح عبد الكريم الذي نصحني بالاهتمام بزوايا الرؤية على المسرح للمتفرج، والاهتمام بالتفاصيل الدقيقة للديكور المسرحي. لذلك، كنتُ أذهب مع المخرج حسين كمال لرؤية منطقة خان الخليلي التي كتب عنها العالمي نجيب محفوظ، وشراء بعض الإكسسوارات من هناك. عرضت رؤيتي في الديكور على عبقري الإخراج حسين كمال، فأعجب بها جداً، وعلق بقوله: “برافو نفذي فوراً!”. هذه الجملة كانت الدافع لي. عملتِ أيضاً مع الفنان فؤاد المهندس في أكثر من مسرحية. ما أبرز ذكرياتكِ معه على خشبة المسرح؟نعم، كان عاشقاً للمسرح، ومتعاوناً جداً مع فريق العمل. أتذكر مرة أثناء عرض مسرحية “سيدتي الجميلة” أن الفنان حسن مصطفى نسي جملة في أحد المشاهد التي تجمعه بالعملاق فؤاد المهندس. فؤاد المهندس انتبه لنسيان حسن مصطفى، فارتجل حواراً قال فيه: “ابتعد عني الآن واخرج في الجنينة اشرب قهوة”، حتى يمنح حسن مصطفى فرصة لمراجعة دوره المكتوب وتذكر الجملة التي نسيها. وبالفعل راجع مصطفى المشهد وعاد لاستئناف العرض، مع امتنانه لموقف عملاق الكوميديا فؤاد المهندس رحمه الله. لحظات كهذه لا تُنسى. 

 درس من حمدي غيث

ما هي المواقف الفارقة التي لا تُنسى خلال مسيرتكِ كمهندسة ديكور مسرحية؟من المواقف التي لا أنساها أبداً، أثناء عرض مسرحية “قصر الأحلام” على مسرح التليفزيون عام 1963، بطولة الفنانة فاتن أنور وإخراج الفنان محمود مرسي. أمرتُ بإلغاء الحفلة بسبب نقص قطعة من الديكور، إلا أن الفنان حمدي غيث، عملاق المسرح الكبير، أخبرني أنه لا يمكن إلغاء العرض المسرحي “حتى لو مات أبطال العرض أنفسهم”. اقتنعت بكلامه وتم عرض العمل. هذه اللحظة علمتني الكثير عن قدسية العرض المسرحي وضرورة استمراره مهما كانت التحديات. عطاء بلا حدود بعد هذه المسيرة الطويلة التي تجاوزت 200 مسرحية، هل ما زلتِ تمارسين تصميم الديكور المسرحي، أم أنكِ قد اتجهتِ للاعتزال؟ وما هو جديدكِ في هذا المجال؟“بابتسامة واضحة تؤكد الحيوية” لم أعتزل تصميم الديكورات المسرحية إطلاقاً! إنه عشق حياتي الذي لا ينتهي. في الحقيقة، أنا ما زلتُ أمارس هذا الشغف. ومؤخراً، تشرفت بالإشراف على إعادة تصميم ديكورات مسرحية “سيدتي الجميلة” التي قُدمت مؤخراً ببطولة الفنان أحمد السقا، وذلك بدعوة كريمة من مؤلف المسرحية أيمن بهجت قمر. هذا العمل الأخير يؤكد أن الروح الإبداعية لا تعرف التوقف، وأن شغفي بالمسرح والديكور لا يزال حياً ومتجدداً، وأتطلع دائماً للمزيد من الإسهامات في “أبو الفنون.