صوفيون الصيحات الحديثة

صوفيون الصيحات الحديثة

حدث ذات مرة، لا نعلم هل كان ماضينا أم حاضرنا – إذ التواريخ باتت تتشابه كما تتشابه الأصوات في برنامج توك شو منتصف الليل – أن الإعلام كان يُعتبر “رصيدًا للمجتمع”، ورمزًا للنزاهة والوعي. كان الإعلامي يُحسب من رجال الفكر، لا من أرباب السوق. كان يرتدي بدلته بعناية لا ليظهر بها، بل لأنه ذاهب إلى معركة الكلمة لا إلى جلسة تصوير. أما الآن، فقد استبدل البعض البدلة بحساب “تيك توك”، والضمير بـ”هاشتاج مولّد للربح”.

بعض من يصف نفسه بالإعلامي الحديث لم يعد يسأل: “ما الحقيقة؟” بل يهمس لنفسه أمام المرآة: “كم ترندًا سأحصد هذا الأسبوع؟” فإن فاته ترند، حزن عليه كأنما فاته قطار الزواج في مسلسل تركي مدبلج. صار هو المدلل والمدللون هم الخوارزميات، يقدّمون له الجوائز الرقمية ويزيحون الآخرين بنظرة عابسة على “السوشيال ميديا”. وكم من مساء شاهدنا فيه “الإعلامي المرموق” يتحوّل إلى مهرّج إلكتروني، يقفز على الشاشة كما تقفز القردة في السيرك، يصرخ، يلوّح بيده، يخلط الجد بالهزل، والعقل بالجعير، والموضوع بالتريند.هؤلاء من يدعون أنهم الإعلاميون لا يقرأون الأخبار، بل يؤدونها كأنها مسرحية هزلية، يصيح الواحد منهم حتى كاد أن نخاف أن ينفجر الحنجرة، بينما هو جالس في أستوديو مكيف لا يصل إليه سوى رائحة القهوة الباردة. يذيع الخبر وكأنما يقيم عزاءً لضحاياه، ثم يبتسم فجأة ابتسامة من يُعلن عن منتج تبييض الأسنان. تلك خلطة لم تُعرف من قبل إلا في وصفات العطارين، لكنها للأسف صارت تُقدّم على شاشة تُشاهدها ملايين. عندما كان الإعلامي يخاطب الجمهور، كان كأنه يكتب على جدار الزمن، يتأنى في كلمته كأنه يصدر حكمًا بالإعدام. أما الآن، فهو يخاطب “الخوارزميات” لا الجمهور، يختزل القضية في سطرين، يشد العنوان بأسلوب بائع سوق، يستفزك بصورة منمقة، ثم يتركك تائهاً وسط فاصل إعلاني لحفّاضات الكبار أو أدوية التنحيف التي لا تفيد. بعض من يصفه نفسه بالإعلامي لم يعد صاحب رسالة، صار كوميديانًا دون أن يقصد، وقاصًا دون أن يقرأ نجيب محفوظ، ومفتيًا دون أن يحفظ آية واحدة. تحوّل البرنامج إلى سباق مواويل، والمذيع إلى “مطرب مواسم”، يردد مقولات مشحونة بالتهريج والصراخ كأنها أغنيات “تريند” سيئة الذوق، بينما الحقيقة تغرق في مستنقع السطحية. تراه يفتتح الحلقة بشيء من الشعر لا لأنه محبّ للبلاغة، بل لأن الجمهور يحبّ القافية وسهولة الحفظ. وبعدها يتحول إلى جلاد لغوي، يذبح النحو والقواعد أمام أعين المشاهدين، ولا تهمه قواعد اللغة كما لا تهمه أخلاقيات المهنة. ولا يكتفي بذلك، بل يرى نفسه “صاحب رسالة” تحرّك الأمة، لكنه في الواقع يحرك فقط عدّاد المشاهدات والمشاعر السطحية. لقد صار الإعلام مشبهاً بصحن سلطة: يخلطون السياسي بالرياضة، يضيفون نكهة دينية على طبق اجتماعي، ويرشون عليه بهارات الإثارة. النتيجة؟ عسر هضم في الوعي الجمعي، وانتشار جهل متقن التغليف. أتذكر إعلاميًا من نوعية “الجعير” الذين يجعلون من الاستوديو ميدان معركة بالصراخ والعصبية المفرطة، كأنهم يوزعون ضربات على الهواء بدل الكلمات. لا يكاد يمر دقيقة إلا وصوته يرتفع، ويديه تتطايران كأنهما تحملان سيوفًا وهمية يقطع بها كل من يخالفه الرأي، حتى صار المشاهد ينتظر اللحظة التي سينفجر فيها غضب المذيع كبركان، لا لينقل الخبر، بل ليعلن الحرب على أي ضيف أو رأي مخالف. وإذا سألته عن سبب هذه الحماوة، يقول لك ببساطة: “المشاهد عاوز كده!”، كأن المشاهد وحش مفترس يحتاج إلى صيحات وزعيق ليبقى مستيقظًا! من قال إن المشاهد لا يستحق إعلامًا محترمًا؟ من قال إننا نريد الصخب بدلًا من التحليل؟ لكنهم – سامحهم الله – باعونا في سوق المحتوى الرخيص بثمن بخس. صار المحتوى يتنافس على من يقدم “اللقطة” الأكثر إثارة، وكمّ الإعلانات التي تقتحم الحلقة حتى تفقد المعلومة قيمتها. أما المعلومة، فهي ضيف نادر لا يزورهم إلا لمامًا، قد تقضي ساعة في مشاهدة حلقة كاملة، ثم تخرج منها كمن دخل صحراء دون جرعة ماء. كلام كثير، معانٍ قليلة، وضجيج لا يُسمِن ولا يُغني من جهل. هذا الإعلامي الذي كان يُنظر إليه كمنارة، صار بعض منتحلي صفته في نهاية المطاف مهرجاً يلهث خلف الترندات، ولا شيء يهمه سوى أرقام المتابعة وعدد اللايكات. نشتاق إلى زمن صفاء حجازي في أدائها، وأنيس منصور في مقالة، ومفيد فوزي في عمقه، ومحمود السعدني في سخريته.