محمد بركة: رواية “مهنة سرية” تحفل بالمتناقضات لكنني لم أتعمدها

محمد بركة: رواية “مهنة سرية” تحفل بالمتناقضات لكنني لم أتعمدها

شبكة تواصل الإخبارية تقدم لكم خبر

أخشى الذهنية المتطرفة لدى الناس وافتقارهم لثقافة التسامح 

تعرضت للشرق والغرب في محاولة للفهم واكتشاف  المشتركات والاختلافات 

لم أشوه أم كلثوم بل كشفت عن جوانب إنسانية مسكوت عنها

الدين والجنس والسياسة هي جوهر الحياة وأتعجب من حظرها

لست بطلا ثوريا وردود الأفعال المجتمعية جزء من حساباتي لكني لا أخضع لها

لم أنفعل بالقضية الفلسطينية وهذه أسبابي

أمتع القارئ ولكن بشروطي الخاصة

كل أبطالي يتمردون على المؤلف ويصنعون مصيرهم

كلما اقتربت الكتابة عن الجنس من شكل القصيدة أصبحت أكثر جمالا

انتشار الرواية مرتبط بالرغبة الشديدة في البوح

المثقف الحقيقي ليس بارعًا في الإدارة

أنا ابن القصة القصيرة وأدين لها في أسلوبي الروائي

 

ما بين الرواية والقصة القصيرة يتردد إبداعه ويتنوع،  يتخذ من البساطة أسلوبا ومن المتعة المغلفة بالعمق مبدءًا، له وجهة نظر مختلفة، قد تصدمك أحيانا، لكنك مع بعض التفكير قد توافقه الرأي، اعتاد بكتاباته المختلفة عن السائد أن يثير الرأي العام، لكنه في الوقت ذاته يعرف كيف يواجه الهجوم عليه دون صدام، ليخرج بعد كل رواية بعدد مضاف إلى جمهور قرائه..
لم يجرؤ روائي قبله على فض قدسية أم كلثوم، لكنه استطاع بحرفية ومهنية يحسد عليهما أن يقدم الحقائق في رداء فني مثير، وأن يقتحم عرين “الست”، من خلال روايته “حانة الست”؛ ليكشف لنا وجهًا آخر لأم كلثوم الإنسانة بكل ما يعتري تلك الإنسانة من مميزات ونواقص، وقابل عاصفة هوجاء من النقد وصلت حد المقاضاة.. لكنه لم يلتفت، وأكمل طريق الإبداع المغاير، فكانت روايته الأحدث “مهنة سرية”، والتي تتطرق لنقاط أخرى تتسم بالجرأة في الفكرة واختلافها، فلم يتناول عمل روائي عربي تلك الزاوية من قبل، ليثبت لنا أن “جرابه” الإبداعي لا يخلو من الألعاب السردية، والأفكار المبتكرة، التي تجذب اهتمام القارئ وقد تسلب لُبه.

 

ومحمد بركة هو كاتب وروائي وقاص مصري، مواليد مدينة دمياط، يعمل كاتبا صحفيا بمؤسسة “الأهرام” الصحفية ويقيم في القاهرة، حاصل على “ليسانس آداب وتربية” من جامعة المنصورة، قسم لغة إنجليزية، كما حصل على ” دبلومة خاصة ” في الأدب الإنجليزي من جامعة عين شمس.
فاز بجائزة “أخبار الأدب” المصرية للقصة القصيرة عام 1994 وكان أصغر المتسابقين سنا في حفل توزيع الجوائز الذي حضره أديب نوبل نجيب محفوظ وخرجت الصحيفة التي كان يرأسها، آنذاك، الأديب جمال الغيطاني بمانشيت لافت هو “عشرون كاتبا هديتنا إلى مصر”.
صدر عمله الأول بعنوان “كوميديا الانسجام”، عام 1999، وهو مجموعة قصصية.
يصنفه النقاد ضمن أصوات التجديد في السرد الروائي العربي وغالبا ما تثير نصوصه نقاشا واسع النطاق وتحظى باهتمام نقدي وإعلامي. 
من أبرز أعماله الروائية “حانة الست”، ” أشباح بروكسل”،”مهنة سرية”. 
تُرجمت روايته “الفضيحة الإيطالية” إلى الإنجليزية ويعد الباحث الهندى “ماهتاب عالم” رسالة دكتوراه حول أعماله تحت عنوان “تجليات العلاقة بين الشرق والغرب والأنا والآخر في روايات محمد بركة” بمركز الدراسات العربية والأفريقية بجامعة “جواهر لال نهرو” في العاصمة الهندية دلهى. 
 

حول روايته الجديدة “مهنة سرية”، ومشروعه الإبداعي عامة، ورأيه حول العديد من القضايا الثقافية والإشكاليات السياسية، كان لنا هذا الحوار مع الروائي والكاتب محمد بركة.. 
** تحفل روايتك الأحدث “مهنة سرية” بالمتناقضات، كعادة كتاباتك، فأبو البطل إمام مسجد، والبطل أصبح يعمل في البغاء، وأمه كانت تخون أباه، والبطل تعرض للإغواء الجنسي منذ كان طفلا.. في رأيك هل يعد الإغراق في الشيء جاذبا لضده؟ 

_ ملاحظتك دقيقة تماما وأشكرك عليها، لكن صدقيني لم أتعمد ذلك، بل وفوجئت بها حين اجتمعت تلك العلاقات والروابط مرة واحدة على هذا النحو. 
فبطل “مهنة سرية” لا أعرف ما الذي يحدد مصيره أو يشكل هويته، ربما كان هناك دور ما محدود لأفكارى كمؤلف، لكن المؤكد أنه تمرد وتحالف مع قوى غيبية واختار مصيره واستقل بقراره.
كل أبطالي يفعلون ذلك، يتمردون على المؤلف ويصنعون مصيرهم، هم أبنائي وأنا أب ديمقراطي أسعد بتمردهم.
 

**تتخذ في روايتك “مهنة سرية” أسلوبا سرديا مختلفا، فالراوي هنا هو السارد المباشر  “ضمير المتكلم”، لكن سرده يأتي إجابة لأسئلة تطرحها عليه النساء.. 
كيف تختار أسلوبك السردي ونوع الراوي، هل تفرضها عليك طبيعة كل رواية أم أن الأمر يحتاج لتفكير عميق، ولماذا لجأت في تلك الرواية لهذا النوع من السرد؟ 

_ هذا السؤال يقتحم بذكاء كيمياء الكتابة، فهناك ثابت ومتغير في اختيار الأسلوب، فأنا أجنح رغما عني للغة الشاعرية والمجاز، ولكنني أفعل ذلك بوعي كامل حتى لا أغرق في المجاز فيتحول النص لحلية فنية ولغوية أو تأملات فلسفية أو كتابة حالمة، فأنا ألاحظ أن كثيرا من الأدباء في متون السرد العربية يريدون أن يبدوا وكأنهم فلاسفة، بالحق أو بالباطل، فالكاتب منهم يريد أن يصرخ في وجه القارئ ويقول له: انظر كم أنا عميق وفيلسوف، بشكل مفتعل، وهو ما أعتبره عدم نضج ومراهقة أدبية.
أما عن طبيعة السرد في تلك الرواية، فأنا منجذب بشكل عام لضمير المتكلم أو ضمير الأنا، أن أكون في مواجهة مباشرة مع القارئ، أن يتخذ السرد شكلا قريبا من الاعترافات الحميمة ذات النبرة الخافتة.
 

** في روايتيك «الفضيحة الإيطالية»، و«أشباح بروكسل»، نراك مهتمًا بصراع الهوية بين الشرق والغرب، فكيف ترى أسباب وتداعيات ذلك الصراع، الذي كنت دوما تترك باب الانتصار فيه مواربا للقارئ ليضع من يراه مناسبا كمنتصر؟

  
_ لديّ مفهوم عام للإبداع، أنه ليس من وظيفة الإبداع الإجابة عن أسئلة، فأنا دائما ما أفضل أن يترك النص مساحة لخيال القارئ أو أن يضع القارئ النهاية بنفسه ويكون متفاعلا ومشاركا، كما أحب ما يسمى بالنهايات المفتوحة، وهو ما أراه متسقا مع الوجود نفسه فوجودنا على هذه الأرض وجود ذو نهاية مفتوحة، وهذا ما يجعلني أميل للنهايات المفتوحة التي هي سمة عامة في أعمالي كلها.
أما فيما يتعلق بالصراع بين الشرق والغرب في أعمالي، فأنا لم أتعامل مع الشرق والغرب أو مصر وإيطاليا بمنطق مباراة بين الأهلي والزمالك، فالمسألة ليست مسألة صراع، فصراع الهوية سؤال قديم لأجيال شائعة وتعرضي للشرق والغرب في إطار محاولتي للفهم واستكشاف المناطق المشتركة والاختلاف بمنطق إنسانى يؤمن بالتعايش والتعدد وليس بمنطق الصراع أبدا، وهو ما يبدو جليا في أحداث رواياتي، ففي رواية “الفضيحة الإيطالية”، نجد “ماريا” تلك الفتاة الإيطالية وهي البطلة ترى في الواقع المصري نقاطا إيجابية قد لا يراها البطل نفسه، وهو مصري شديد الغضب تجاه واقعه، فالأمر ليس تشكيكا وليس استعلاء بل مقارنة للتقريب وليس العكس.
 

** المسكوت عنه وخاصة ما يتعلق فيه بالدين والجنس، هو شغل شاغل لبركة، نراه في مجموعتيك القصصيتين «كوميديا الانسجام» و«3 مخبرين وعاشق»، كما في روايتيك “مهنة سرية”، “عرش على الماء”…
هل ترى أن من إحدى أهم مهام الكاتب أن ينبش فيما لا يستطيع الآخرون الحديث عنه، وما الذي عانيته جراء ما كتبت؟

_ أتعجب كثيرا من كون هذه الثلاثة تعد أمورا محظورا التعرض لها؛ لأنها جوهر الحياة، ليس فقط بالمعنى المباشر للكلمة، فالدين ليس مجرد عبادات وأحكام بل تصورات وعادات تنتظم ذهن الإنسان في منطقة مضطربة وتعاني من الانفصام مثل منطقة الشرق الأوسط أو العالم العربي وهناك مسافة كبيرة بين ما يقولون وما يفعلون، كذلك السياسة، فهي ليست بالنسبة لي حاكما يحكم ويعتلي سدة الحكم ونؤيده أو نعارضه فالسياسة تمثل أشياء كثيرة، فأسعار السلع البسيطة هي نوع من أنواع السياسة مثلا، إذن فالسياسة بمعناها العريض تنتظم كل أشكال الحياة، أيضا فالجنس ليس مجرد شهوة عابرة بين جسدين،  بل هو أرواح تتلاقى وحوار إنسانى بين ذكر وأنثى فهو ليس فترة يقضيها اثنان في الفراش بل هو أشياء أكثر شمولية تتعلق بعلاقة الشخص بروحه وجسده، علاقة الفرد بالآخر فتحقق الذات الأنثوية والذكورية، وأيضا مناطق ما هو مضيء ومظلم ورمادي تحت عنوان عريض المرأة والرجل.
وقد كان لحضور الجنس بالشكل الإنساني والثقافي العام في أعمالي سبب في جلب العديد من المشاكل والعديد من الاتهامات المجانية من نحو أننى لا أراعي قيم المجتمع رغم أننى أرى أن الكتابة عن الجنس كلما اقتربت من شكل القصيدة أصبحت أكثر جمالا، أفعل ذلك من منطلق جمالي فني بحت وليس تخوفا من الإدانة الاجتماعية، فطريقة التناول مهمة جدا في هذا وأي مشهد له أسباب وتفسيرات في الرواية وهدف محدد وليس الجنس لمجرد الجنس، فالعالم تجاوز فكرة تناول الجنس لمجرد الجنس، رغم أننى ليس لدي محاذير أخلاقية في محاسبة الآخر، فالاستغراق في وصف مشاهد جنسية بحتة ربما في عقود سابقة كان نوعا من التمرد على تقاليد اجتماعية ربما تكون لها وظيفة ما قد تأتي تعبيرا عن تجربة الكاتب، أما الآن في ظل ثورة الإنترنت ومحركات البحث فنحن نعود لأصل الأشياء وأصل الكتابه وهو أنك تصف مشهدا معينا لوظيفة فنية وجمالية، ورغم ذلك فلابد أن يتعامل الكاتب مع الجنس بحساسية ويكون تعامله معه تعامل سيدة البيت مع الملح، فالامتناع عنه تماما أو اتخاذ موقف مسبق منه شيء سييء والإفراط فيه شيء سييء، لكن لنا أن نعترف بأنه بعد قرون من التطرف في منع الجنس والكتابة والحديث عنه قد حدث بعد ذلك تطرف في الكتابة عنه وأصبح كل كاتب يريد أن يبرهن على أنه جريء ومتمرد فيغرق في تناول الجنس.
والحقيقه أنه في ثقافتنا العربية قد تعامل الأدب العربي مع الجنس بمراهقة شديدة، وقد مررنا بمرحلتين غير ناضجتين الأولى أنه يفتقر للمنطق، فتارة نتعامل معه باعتباره شيئا مخيفا لابد من منعه وتارة أخرى نتعامل معه بإسراف شديد لكي يؤكد الكاتب أنه متمرد وجريء فهناك كاتبات يفتقرن للموهبة ويرين أن بطاقة الاعتماد هي الكتابة في الجنس بجرأة.

أما عن تناولي لفكرة الدين في رواية “عرش على الماء” التي تقدم نموذجا لداعية شهير يستخدم مكانته وثقة الناس فيه لتحقيق مآرب سياسية وجنسية، فقد تم اتهامي نتيجة ذلك التناول بأنني أشوه صورة رجل الدين.
 

** في رواية “عرش على الماء”، البطل مشهور الوحش، شخصية تحمل تناقضات كثيرة، فهو يتخفى في رداء الدين ولكنه في الواقع يخضع لشهواته.. 
إلام يرمز مشهور الوحش، هل يمكن اعتباره رمزا لسلطة دينية كاذبة حكمت في فترة سابقة بعد ثورة يناير؟
وسبق أن قلت عن تلك الرواية إنها الأكثر عذوبة وتعذيبا..
ما بين العذوبة والتعذيب مسافات كثيرة، فكيف لرواية أن تجمع نقيضين؟ 

_ مشهور الوحش يرمز لكل جريمة ارتكبت في حق المصريين والعرب والمسلمين، فقد حوّلتْ تلك الشخصية الدين من وردة لشوكة ولأاداة سياسية ووسيلة للتكسب والنفوذ ولمؤامرة على مصر من خلال التعاون مع رموز أخرى، فالرواية هي محاولة اجتهدت للوصول لجذور التطرف الديني من خلالها. هذا الفهم الخاطئ لشيء نبيل يسمى الدين وعلاقة خاصة بين الخالق والمخلوق كيف تحولت بمصر لأزمة كبيرة. حاولت من خلال شخصية مشهور الوحش أن أصل للجذور الأولى لفهم فكرة التطرف، فأنا لا يخيفني وجود جماعة متطرفة بل يخيفني أكثر تلك الذهنية السلفية المتطرفة لدى الناس وافتقار المصريين لثقافة التسامح والرغبة الشديدة في إدانه الآخر، إنها شهوة الإدانة والتجريح ورفض الناس لأي شيء مختلف فأصبحت المنتقبة تنظر شذرا لمن لا تغطي شعرها والملتحي ينظر شذرا لحليق الذقن وأصبحنا نعيش في حالة من الادانة الشديدة وعدم قبول الآخر والاختلاف معه.هكذا حاولت في الرواية أن أصل لجذور التطرف.
وأستعرض من خلال السرد والمجاز لحالة شعرية.
فعندما تلمس العذوبة نقطة غائرة في روحي أشعر بنوع من النشوة، التعذيب يكمن في أن الرواية مرهقة لأنني أمام شخصية مركبة، ففضلا عن التناقض الصارخ بين مكانتها الدينية وأفعالها الشخصية فلدي لحظات من الشعور بالذنب، كما توجد أيضا ثنائية الشعور بالدنس والشفافية، فالبطل متعلق بشهوات الأرض لكن هناك لحظات شفافية يشعر بها فيصبح هناك صراع نفسي داخله.

** لعنوان رواية: “عرش على الماء”، دلالتان،  ترجع لذلك التناص مع القرآن الكريم، حيث الصفة الإلهية، فقد كان عرش الرحمن على الماء، وهو ما يحمل رمزا دينيا واضحا، والدلالة الأخرى ذلك الوهن الذي يصيب العرش، فرغم أنه سلطة “عرش”، الا أنه مهدد بالغرق، فهو في حقيقته زائل ولن يدوم كثيرا..
فسر لي دلالة العنوان..

_ إن شخصية البطل مركبة وتحمل تناقضات، جزء من تناقضها أنه مصاب بجنون العظمة فتصور نفسه أن لديه عرشا على الماء وقال صراحة في أحد الابتهالات يا الله لولا خجلي لطلبت منك عرشا على الماء. فقد بلغ جنون العظمة حد أنه يريد أن يكون له عرش موازٍ لعرش الله، كما يرد العنوان على لسان الابن الذي يريد أن يجري بحثا على مفردة العرش على الماء، إذن فعنوان الرواية يتردد بشكل مباشر داخل تفاصيلها.

 

** للمرأة في كتاباتك نصيب وافر، لكننا لا نراها أبدا بطلة مباشرة، فالبطل دوما رجل والمرأة تأتي في الخلفية، رغم أهمية دورها فيما سيق إليه البطل، فلماذا؟

_ باستثناء رواية “حانة الست”، ليس لدي نص بطلته أنثى أو الراوي السارد أنثى، وأعتقد أنه سوف يحدث مستقبلا باستثناء رواية “حانة الست”، فالبطلة الساردة هي أم كلثوم، وكثيرون قالوا عنها إنني استبطنت روح المرأة من خلال أم كلثوم بشكل عام، ربما لم أخرج من أصل الذكورية أو ضمير المذكر السارد للأحداث في أعمالي، إلا أنني أرى أن المرأة هي الأكثر ذكاء وحكمة، فالرجل عندي ساذج وواضح لكن المرأة عندي أكثر نضجا من الرجل.

 

**في روايتك “حانة الست”، كيف استطعت أن تخدش قدسية الست أم كلثوم، وتدلف إلى مناطق مسكوت عنها في شخصيتها وغير مسموح لأحد بالحديث عنها أو حتى الإشارة إليها، ألم تخش من نقد لاذع أو هجوم مجتمعي؟ وكيف واتتك تلك الفكرة؟

_ واتتني الفكرة عندما قرأت بالصدفة البحتة كتاب “أم كلثوم التي لا يعرفها أحد” لمحمود عوض، فهو كتاب مكثف للغاية، ورغم ذلك فقد أيقظ وعيا كبيرا بداخلي بأن هناك أم كلثوم أخرى لم نتعرف عليها على المستوى الإنساني، فكان الكتاب بمثابة الشرارة لأنني انطلقت في عملية بحث شاملة عنوانها الوجه الإنساني المسكوت عنه لأم كلثوم، واكتشفت أننا أمام روايتين: رواية رسمية تصل للناس كلها وتضع أم كلثوم في حالة من القداسة، ورواية أخرى وحقائق تواطأ الجميع على نسيانها، مصادرها الأولى هي أم كلثوم نفسها، فاستفزني الأمر وتبلورت فكرة الرواية بأن تكون أم كلثوم هي الراوي ومن تتحدث وتقول لنا أنصتوا لي جيدا فسوف أتلو عليكم قصتي المحجوبة، فكان التحدي أن الحقائق المسكوت عنها في حياة أم كلثوم عندما نقيسها بحجم الكتابة هي مواقف عابرة كل منها لا يتجاوز عدة أسطر، فكيف تبني عملا روائيا كاملا على الأسطر القصيرة؟ من هنا جاءت القماشة السردية الحقيقية وهي روح ومشاعر وانفعالات أم كلثوم، التي أشعر أن روحها تلبستني تماما وشعرت بالحزن والقهر والمرارة التي مرت بها أم كلثوم في مراحل مختلفة من حياتها وكيف تحولت جميعها في مواقف ومراحل أخرى إلى ديكتاتورية وتسلط وأنانية شديدة ورغبة بالانفراد بالمجد، بل كيف تحولت أم كلثوم لآلة تسعى للوصول لذروة المجد.

** هل تعرضت لهجوم جراء تلك الرواية؟

_ نعم، تعرضت لهجوم غير مسبوق، لدرجة أن البعض طالب بمصادرة الرواية، بل وهدد بتقديم بلاغ للنائب العام بتهمة تشويه رمز مصري، كانت هناك حالة من الغضب الشديد والاتهامات التي وصلت لحد جنوني،  وقد لاحظت أن هؤلاء لم يقرأوا الرواية ولكن سمعوا بها وطالبتهم بقراءتها حتى يعرفوا أنني لا أشوه أم كلثوم بل أكشف عن جوانب إنسانية مسكوت عنها، ونحن جميعا نعرف ونتفق أن أم كلثوم حالة استثنائية من العبقرية، فلو كانت أم كلثوم قديسة أو ملاكا لصارت عبقريتها شيئا عاديا، ولكن لكي ندرك حجم عبقريتها لابد أن ندرك أنها مرت بلحظات إنسانية شديدة القسوة واستطاعت أن تتخطاها وتصبح تلك الأسطورة.
في النهاية ما حدث أن “حانة الست” فتحت الطريق أمام كتابات كثيرة جاءت بعدها، وأزعم أن “حانة الست” تقود طيارا عريضا في الثقافة العربية عنوانه البحث عن المسكوت عنه أو الحقائق المنسية في تاريخ أم كلثوم، فقد نجحت “حانة الست” في أن تؤكد أن أم كلثوم لم نعرفها جيدا وبعيدة المنال، فهناك العديد من الإصدارات التي تدفقت بعد “حانة الست”، سواء اتخذت شكلا إبداعيا مباشرا أو اتخذت شكل بحث تاريخي يتناول سيرتها أو فيما يتعلق بعلاقتها بالموسيقى والغناء وغيرهما، هكذا أعتبر أنني تلقيت الضربة الأولى وصددتها عن الآخرين من بعدي.
 

** من “عرش على الماء”، إلى “حانة الست”، إلى “مهنة سرية”، “أشباح بروكسل”…
كيف يختار محمد بركة عناوين أعماله؟ وكيف يحملها كل تلك الدلالات والمعاني؟

_ العناوين نوعان؛ هناك نوع أعتبره رزقا يفرض نفسه، حدث معي في “أشباح بروكسل” و”الفضيحة الإيطالية” لكنه في “مهنة سرية” رغم أننى تمردت عليه ووضعت عناوين أخرى، إلا أنني في آخر لحظة عدت للعنوان الأول، فهناك عناوين أخرى تسبب عذابا، فلا يكون هناك عنوان يفرض نفسه فتكون محددات الاختيار لدي هي الاختلاف، أي أن يكون العنوان ليس تقليديا، فيجب أن يكون العنوان مختلفا ولا يسير على خطى الآخرين، فأنا أنتبه لعدم إنتاج عناوين الآخرين قد أكون وقعت في غرامها، بل أحرص على أن يكون العنوان بصمة أسلوبي السردي.
 

** تعتاد تغليف المسكوت عنه بوصف غير خادش لكنه كاشف في الوقت ذاته، فهل يمكننا أن نقول إن بركة رغم امتلاكه ناصية التعبير الجرئ، فهو يغلفه بنوع من الوقار، خشية تعرضه للانتقاد المجتمعي مثلا، أو أن هناك سببا آخر؟

_ أنا لا أدعي بطولات زائفة، ففي السنوات الأخيرة أصبحت ردود الأفعال المجتمعية جزءا من حساباتي وأحاول ألا أخضع لها تماما ولكني لا أتعامل أيضا وكأني في جزيرة معزولة لا أريد أن أخضع لمجتمع متخلف موافق وفي الوقت نفسه لا أريد أن أكتب وكأنني أعيش في أوروبا مثلا، فالفكرة هنا كيف تعبر عن أفكارك بمنتهى الدقة وفي نفس الوقت تتجنب الدخول في معارك لا طائل منها ولها، أنا لست بطلا ثوريا يستعد لدخول السجن سواء على المستوى الديني أو السياسي فأنا أريد أن تتاح لي فرصة الكتابة دون مشاكل.
 

** كتبت الرواية والقصة القصيرة، لماذا لم تكتب المسرح؟ وأنا لديّ معلومة أنك كنت بصدد كتابة “حانة الست” كمسرحية ثم عدلت عنها، لماذا، هل لأن المسرح أقل رواجا من الرواية؟

_ في الواقع أنا ملتبس بفكرة الأنا النرجسية التي تميز أبناء برج الحمل، فكان السرد الروائي هو الشكل الأنسب لأعبر عما يعتري هذه الأنا من الإحباط أو الرغبة في تأمل العالم بما يناسب تلك الحالات، لذا كنت بحاجة للبوح، في الوقت ذاته فأنا أحب المسرح، وجزء من تربيتي الأدبية كانت من خلال مسرح توفيق الحكيم، وعبر النصوص المسرحية التي درستها لشكسبير وكتاب عصر النهضة، لكن ربما كتبت المسرح مستقبلا.

 

**هل في رأيك يجب أن يخضع الكاتب لذائقة القارئ ومتطلبات سوق النشر؟

_ لا ننكر أن سوق النشر ومتطلبات القارئ شيء شديد الأهمية والحساسية، بمعنى أنه لا يجوز لاي مبدع أن يخضع لذائقة القارئ، ولكن في نفس الوقت يجب ألا يتعالى عليها، فهناك شيئان أرفضهما وأرى أنهما سبب مباشر في انحطاط الأدب العربي؛ الخضوع الكامل للقارئ، وكأن الكاتب في خدمته، وهو ما يفسر كثيرا من الركاكة والانحطاط في الكتابة، الأمر الثاني أن يتصور المؤلف أنه كلما استبعد القارئ كان عميقا وشجاعا يستبعده وكأنه روح شفافة تتخلص من دنس الواقع، فالقارئ أو المتلقي ياتي لديّ دوما رقم 2 بعد رغبتي في البوح بكلمة صادقة حقيقية صدرت من روحي وقلبي ومعجونة بوجداني، ولكن كيف أعبر عن تلك الكلمة الصادقة، هنا تأتي اللغة والأسلوب والصياغة، فأنا دائما لا أتعالى على القارئ، فأنا لا أصرخ في البرية ولا أطلق عاصفة هوجاء في صحراء بعيدة، فحينما أكتب يكون هناك في ذهني من سيتلقى ما أكتب وأراعي ذلك بشكل أو بآخر، ولكنني لا أجعل مخاطبة القارئ تتحول لأن أكتب كتابة تتسق تماما مع رغبة القارئ حتى في التسلية أو قتل الوقت، فالنص الأدبي ليس أداة للتسلية أو تمضية الوقت، وفي نفس الوقت ليس شيئا مقدسا علويا يخاطب الملائكة والفراغ، أنا أكتب لإمتاعي أنا، فالمتعة شرط أساسي في العملية الإبداعية، أن أستمتع كمؤلف بما كتبته، وأحقق المتعة ذاتها للمتلقي، وهنا أنا أراهن على القارئ السوي الذي لديه الحد الأدنى من الثقافة والوعي وليس القارئ الذي اعتاد مثلا قراءة أدب الرعب فقط، فهذا المتلقي لن يستمتع بما أكتبه، إذن فالمتعة أساس في عملية الكتابة بالنسبة لي،  وعلى ذكر المتعة، فأنا أريد أن أصرخ مثلما كانت أم كلثوم تصرخ عندما تعجب بأدائها فتقول الله يا ثومة، فأنا أريد أن أقول الله يا محمد، وهو ما يدفعني للبحث عن لغة وأسلوب وفكرة وعبارة تطربني، وتطرب القارئ أيضا، فأنا ألزم نفسي ككاتب بما كنت أبحث عنه كقارئ، أبحث عن المتعة، عن لغة مدهشة ومختلفة، وعما يثير خيالي، فالمتعة تنبع من اللغة المدهشة ومن إثارة الخيال، فأنا أبحث عما يمتع القارئ، ولكنني أمتعه بشروطي. 

** عبر كتابه المهم “زمن الرواية”، دشن الدكتور جابر عصفور رحمه الله لمقولة “نحن في زمن الرواية”، ففي رأيك لماذا وصلت الرواية لتلك المكانة على حساب الفنون الأدبية الأخرى؟، وهل الأمر مرهون بذائقة القارئ أم يرجع لتوجيه الناشرين لأغراض تجارية؟

_ أضعف حلقة هنا هم الناشرون، فصحيح هناك تركيز على نشر الرواية ولكن ذلك يأتي تاليا لأشياء أخرى فانفجار الرواية في الثقافة العربية وراءه أسباب موضوعية تتعلق في رأيي بالرغبة الشديدة في البوح وتحويل أي شيء لقصة وحكاية، من هنا جاء انفجار الرواية بالأساس لأن جميع أشكال السرد والمعرفة تحولت إلى قص روائي، فمثلا كان لدينا فن اسمه سيرة ذاتية، وبدلا من كتابة سيرة، تحول الأمر للرواية، وبدلا من البحث في طبقات التاريخ كمؤرخ يسارع الأخير بجعل ذلك رواية، إذن فقد تحول التاريخ والسير الشعبية والذاتية والمسرحيات لروايات، فصارت الرواية كثقب أسود يلتهم كل أشكال الكتابة الأخرى، فالتاريخ السياسي تاريخ الزعماء والمشاهير حتى بعض الفنون مثل الفوتوغرافيا أو غيرها أصبح البحث فيها يتم  بنمط روائي وكثيرا ما يحصل أحد الصحافيين على وثائق مهمة في أمر ما وبدلا من أن ينجز بحثا تاريخيا يتحول لكتابة رواية، مما أدى لوقوع الثقافة العربية في لحظة معينة أسيرة للبوح والحكي نتيجة متغيرات كثيرة، كذلك الرغبة في كسر القيود والانطلاق، وهناك أيضا سبب آخر لانفجار الرواية، وهو أن جيل التسعينيات وما قبله وقع أسيرا لجملة حق يراد بها باطل، وهي الهموم الفردية اليومية الذاتية، فاستهلك هذا الجيل نفسه في كتابات شديدة الذاتية ولا تقدم عالما، فهو منغلق على ذاته وكتاباته منغلقة على ذاتها فتبدو ركيكة، والكتابة الذاتية ليست مدانة بشكل عام، فأنا مع الكتابة الذاتية التي تمنح القارئ شيئا من دمها وروحها، بصدق ترى القارئ وتلمسه، لكنني ضد ذاتية أشباه المثقفين الأدعياء.

** رغم أنك مهموم ضمنيا بالقضايا الكبري التي تغلفها بين سطور أفكار أعمالك، إلا أنك لم تتطرق للقضية الفلسطينية ولو في مشهد عابر، لماذا؟، وهل تعتبر الكاتب والمثقف عموما ذا رسالة وموقف، أم أن الأمر فني بحت دون ضرورة لحمل رسائل، تأسيا بنظرية الكتابة للمتعة فقط؟

_ لم أتطرق للقضية الفلسطينية لأنني لم أنفعل بها، فهناك فارق بين إحساسك بعدالة ونبل شيء وبين الانفعال به، فأنا مثلا منفعل بعدالة قضية الهنود الحمر، ولكن فيما يخص القضية الفلسطينية فقد رأيت أن المتاجرين بها أكثر من أصحابها، وربما لأنني وجدت أن من يفترض أنهم أهل القضية هم من يسيئون لها أكثر من أعدائها، فلسطين قضية كبرى وقصة كبرى في ثقافتنا ووعينا ولكننا بحاجة في هذا الأمر للتفكير بوعي، فأنا أتصور أن الأذى الأكبر للقضية الفلسطينية الفلسطينيه جاء من أناس فلسطينيين أكثر من أعدائهم.

** كيف يرى محمد بركة حال الثقافة في مصر، وهل تحتاج لأن يتولى المناصب المثقفون مثلا وليس موظفين لا يعلمون عن حال الثقافة شيئا؟

_ لا أتصور أن المثقف الحقيقي بارع في الإدارة، بل أتصور أن للإدارة أهلها، فمشكلة الثقافة المصرية ليست في أنه ينبغي أن يكون قائد المؤسسة الثقافية مثقفا بالمعنى المباشر للكلمة، ولكن يجب أن يكون شخصا يتحلى بالحرفية والرغبة في النجاح وهز هذا المستنقع الآسن، ولديه رؤية، ويستعين بالمثقفين ورؤاهم ويمكنه الاستماع لهم، ولكن ليس بالضرورة أن يكون هو مثقفا وليس ايضا شخصا بليدا يتعامل مع الشأن الثقافي كأنه يتعامل مع سوق للخضار.

** ما بين الرواية والقصص القصيرة يتردد أدبك، فإلى أيهما يهفو قلبك، وهل حاولت طرق الشعر، رغم أن لغتك تقترب من الشاعرية؟

_ أنا ابن القصة القصيرة، وأدين لها في كتاباتي الروائية بأنها جعلتني أعشق الاختصار والتكثيف والبعد عن الاستطراد، وكأنني أكتب قصة قصيرة،  فأنا أفكر في النص الروائي بعقلية القاص.

 

** تقول ذلك رغم أن عدد رواياتك أكثر من قصصك؟

_ هذا من حيث المبدأ ولكن من حيث التطبيق العملي حدثت فجوة بيني وبين القصة القصيرة وجدت نفسي أكثر في المحيط الروائي وأعتبر أنني خنت القصة القصيرة، فمشاريعي المقبلة كلها ستكون روايات.

** دائما ما يفضل بركة أن يقدم نفسه كروائي وكاتب وليس كصحفي، هل ترى أن عملك بالصحافة يعد نقطة خصم وليس إضافة لك ككاتب؟

_ أشرف بعملي الصحفي كثيرا، خاصة أنه ارتبط بمؤسسة هي في قلبي، ولكن من حيث التطبيق العملي فقد أهدرت وقتا طويلا في بلاط صاحبة الجلالة، فالصحافة استحوذت على جهدي ووقتي في فترة مهمة، لكن هذا لا يمنعني من الاعتراف بأن الصحافة أفادتني في الكتابة الروائية، مثلا في اختيار الموضوع، فنحن كصحفيين مسكونون بهوس التحقيق الصحفي الذي يذهب لمنطقة غير مطروقة، فتعلمت في كتاباتي الروائية أن أطرق أفكارا مبتكرة، فمثلا في رواية “مهنة سرية” طرقت منطقة جديدة في السرد العربي وكذلك في رواية “حانة الست”، فأنا أفضل أن أذهب في رواياتي لمنطقة جديدة، لكن الإنجاز ليس فقط في الذهاب لفكرة جديدة، بل كيف تتناول وتعالج تلك الفكرة، وهذا كله استفدت فيه من عملي الصحفي.