رمزُ الوطنيةِ النادرةِ!!

رمزُ الوطنيةِ النادرةِ!!

لم يكن الزعيمُ مصطفى النحاسُ، نزيهًا فحسبُ، ولكنه كان مكتفيًا راضيًا، وكان أيضًا وطنيًّا صبورًا، وخطيبًا ذكيًّا، وحرًّا لا يخشى إلا الحقَّ.. وله حكايةٌ دالةٌ سردَها الكاتبُ عباس حافظ، خلالَ خوضِهِ الانتخاباتِ فى سمنودَ.
يقولُ عباس حافظ فى كتابِهِ الذى قمتُ بإعادةِ قراءتِهِ الأسبوعَ الماضى.. «وظهرَ من حريةِ رأيِهِ يومئذٍ ما كانَ حديثَ الناسِ فى المجامعِ، وموضعَ تقديرٍ حسنٍ عندَ الناخبينَ يخطبُهم، فقد وقفَ فى أهلِ دائرتِهِ سمنودَ خلالَ الحركةِ الانتخابيةِ، وكانَ منافسُهُ فيها يومئذٍ على بك المنزلاوى، فقالَ: من منكم يرى فى انتخابِ على بك المنزلاوى مصلحةً لوطنِهِ ولا يُقدِمْ على انتخابِهِ مُجاملةً لشخصى، أو مُراعاةً لأيِّ اعتبارٍ آخرَ، فإنَّهُ يكونُ مُجرمًا فى حقِّ بلادِهِ»!
هكذا كانَ النحاسُ، شريفًا فى خصومتِهِ، فقد قالَ للناسِ انتخبوا منافسى إنْ كانَ أفضلَ منى فى خدمةِ الوطنِ!! من يفعلُ ذلكَ الآنَ!!
أمَّا عن كونِهِ وزيرًا لا يُقارنُ.. فقد قالَ عباس حافظ: «كانَ مسلكُهُ فى وزارةِ المواصلاتِ مسلكَ نزاهةٍ رفيعةٍ، إذ كانَ المُعتادُ قبلَ قيامِ وزارةِ الشعبِ الأولى أنْ يتقاضى كلُّ وزيرٍ أربعينَ جنيهًا بمثابةِ «بدلِ سيارةٍ»، فلمَّا جاءتِ الوزارةُ السعديةُ وقفَ النحاسُ بينَ زُملائِهِ يقولُ «إننى أقلُّكم مالًا، ولكنى مُتنازلٌ عن مبلغِ الأربعينَ جنيهًا التى تُدفعُ لنا»، فلم يكنْ من الوزراءِ إلا أنِ استجابوا لهُ، واحتذوا حذوَهُ، فأُلغيَ المبلغُ من الميزانيةِ إلى أنْ جاءتِ الوزارةُ الزيوريةُ فاستعادتْهُ «يقصدُ وزارةَ أحمد زيوار باشا».
كانَ هذا هو أولَ عهدِهِ بالمناصبِ الوزاريةِ.. ويدللُ عباس حافظ على قوةِ شخصيتِهِ رغمَ حداثةِ عهدِهِ بالوزارةِ قائلًا: «ورغمَ ذلكَ لم يكنْ مصطفى يُصانعُ أو يُجاملُ أو يخشى سطوةَ أحدٍ من الإنجليزِ، أو يسكتُ عن إساءةٍ من ناحيتِهم، أو خطأٍ يقترفُهُ كبيرٌ فيهم؛ بل كانَ الوزيرَ الحريصَ على كرامتِهِ، الحفيظَ لهيبةِ منصبِهِ وسلطتِهِ».
فقد قرأَ وهو وزيرُ المواصلاتِ يومئذٍ فى تلغرافاتِ الأهرامِ الخاصةِ ذاتَ صبحٍ مقالًا أو خلاصةً من مقالٍ أو تصريحًا منسوبًا للمستر فرسكويل المديرِ العامِّ للسككِ الحديدِ المصريةِ فى ذلكَ الحينِ معَ أحدِ مُراسلى الصحفِ البريطانيةِ، وهو أنَّ السكَكَ الحديديةَ المصريةَ قد اختلتْ اختلالًا شديدًا منذُ تربعتِ الوزارةُ النيابيةُ، فلم يَكَدِ الوزيرُ يصلُ إلى مكتبِهِ حتى استدعى إليهِ المستر فرسكويل.
فلما حضرَ قالَ لهُ إنى أقترحُ عليكَ يا مستر فرسكويل أنْ تختارَ أحدَ أمرينِ: إمَّا أنْ تكتبَ إليَّ قبلَ الساعةِ الواحدةِ كتابًا تُكذِّبُ فيهِ تصريحَكَ المنشورَ فى التايمزِ، أو أنْ أُحيلَكَ فى الحالِ إلى مجلسِ تأديبٍ، وانصرفَ المستر فرسكويل حائرًا لا يدرى ماذا هو صانعٌ إزاءَ هذا الوزيرِ الجديدِ الذى لا يضعُ إنجليزيتَهُ موضعَ الاستثناءِ، ويُعاملُهُ كمرؤوسٍ من عِرضِ المرؤوسينَ سواءً بسواءٍ.
ولكنْ لم يلبثْ أنْ خطرَ لهُ خاطرٌ، فعمدَ إلى تنفيذِهِ؛ وذلكَ هو أنْ يزورَ صديقًا إنجليزيًّا مثلَهُ يشتغلُ بالمحاماةِ، راجيًا إليهِ أنْ يقصدَ النحاسَ باشا فيتوسطَ لهُ عندَهُ، فلمَّا كاشفَ صديقَهُ هذا بما جرى، ذهبَ الصديقُ إلى النحاسِ باشا، فدخلَ عليهِ وبسطَ الأمرَ لهُ، فقالَ لهُ مصطفى باشا إنى أعجبُ لكَ كيفَ وأنتَ مُحامٍ تجيءُ لتناقشَنى فى مسألةِ موظفٍ تحتَ إدارتى، فإنْ كانتْ لديكَ نصيحةٌ للمستر فرسكويل، فانصحْ لهُ بأنْ يكتبَ لى الكتابَ الذى طلبتُهُ منهُ.. وقبلَ الساعةِ الواحدةِ بعدَ الظهرِ كانَ عندَ مصطفى باشا الكتابُ الذى أرادَهُ.
هذا هو النحاسُ.. كانَ زعيمًا ذكيًّا ولكنهُ كانَ صادقًا ومُخترقًا لعقولِ الجماهيرِ وقلوبِها معًا، ولذلكَ كانَ زعيمًا لا يُضاهى، وكانَ نموذجًا يجبُ تدريسُهُ فى مناهجِ السياسةِ باعتبارِهِ رمزًا نادرًا للوطنيةِ.