حملة المباخر: كيف تتحول الكلمات إلى وسيلة للتلاعب!

حملة المباخر: كيف تتحول الكلمات إلى وسيلة للتلاعب!

في كل مجتمع يمرّ بمنعطف حاد أو أزمة عميقة، تتكاثر الأصوات وتتناسل الأقلام، لكن ليست كلها على ذات النبرة أو ذات النية. فكما يخرج من يرفع الصوت من أجل التغيير، يبرز من يختار التسبيح بحمد الواقع وتمرير الرداءة تحت عباءة المديح

هؤلاء هم حملة المباخر، الذين اتخذوا من الكلمة بخورًا يُدخّن في وجه السلطة، لا ليطهّرها، بل ليُعمي الأبصار عن العطب

هم أولئك الذين احترفوا المديح وجعلوه سلعةً تُعرض في سوق المصالح. لا تعنيهم الحقيقة، ولا تهمهم المآلات، بقدر ما يعنيهم رضا «الجهة الأعلى»، أكانت سلطة سياسية، أم رموزًا اجتماعية، أم دوائر نفوذ لا يُراد المساس بها.

يرتدون أثواب الثقافة، ويتكلمون بلسان الوطن، لكنهم في الحقيقة لا يكتبون إلا ما يخدم مصالحهم أو يضمن لهم موضعًا في مجالس السادة.
الخطر في حملة المباخر لا يكمن فقط في تزييفهم للواقع، بل في قدرتهم على إضعاف أدوات الإصلاح وتحييد النقد البنّاء. فهم يسدّون الطريق أمام الأصوات النزيهة، ويحوّلون الساحة الثقافية والفكرية إلى مرآة مشوّهة تعكس صورة غير حقيقية لما يجري.

ولأنهم يتحركون تحت عباءة «الوطنية» و«الحرص على الاستقرار»، ينجحون أحيانًا في خداع الرأي العام، ويمتصّون زخم التغيير.

كم من مشروع فاسد صُوّر وكأنه إنجاز تاريخي، وكم من فشل إداري أُلبس ثوب «الظروف القاهرة»، وكم من مسؤول بلا كفاءة جرى وصفه بـ«القيادي الحازم».

هذا كله بفضل حملة المباخر الذين حولوا الإعلام والثقافة إلى جوقة نشاز، لا تسمع فيها سوى المديح والتمجيد، ولو على أنقاض الحقيقة.
إن البخور مهما تعاظم دخانه، لا يُخفي عفن الفساد، ولا يُبدّد رائحة التقصير. بل إن المجتمع الذي يستمر في استنشاقه، يفقد مع الوقت حاسة التمييز بين العفن والعطر.

في مناخ يسوده التطبيل، تضيع المعايير، ويُهمّش المثقف الحقيقي، ويُستبعد الكاتب الحر. تتحوّل الصحف إلى نشرات علاقات عامة، وتصبح المنصات الثقافية مجرد منابر لإعادة تدوير الكلام المُنمق.

بل الأدهى أن يُقدَّم هؤلاء على أنهم «رموز»، وأن تُمنح لهم الجوائز والمناصب، في مفارقة تجعل من المديح معيارًا للنجاح، لا الإبداع أو القيمة.
حملة المباخر لا يُديرون المعارك بالسلاح، بل بالكلمة المسمومة. فهم يُطوّعون اللغة، ويزيّنون الإخفاقات، ويقلبون المعايير.

وبهذا يصبح المديح وسيلة لضرب المنافسين، وتحييد الكفاءات، وتكريس الرداءة في أعلى مواقع القرار. لأن كل نقد يصبح «تشويشًا»، وكل معارضة «خيانة»، وكل مطالبة بالإصلاح «أجندة مشبوهة».

ففي بيئات سياسية أو اجتماعية هشّة، حيث تغيب الشفافية ويُستبدل الحوار بالتلقين، يُصبح التزلف وسيلة للبقاء، بل أحيانًا للترقّي.
الكاتب أو المثقف أو الإعلامي الذي يختار طريق النفاق، يعلم جيدًا أن الصمت على الخطأ لن يُحاسبه عليه أحد، بينما الصدح بالحقيقة قد يُقصيه أو يُعرّضه للأذى.

أولى خطوات المواجهة تبدأ بإحياء الوعي النقدي لدى الجمهور. أن نُعلّم الناس أن ليس كل مقال أنيق يحمل صدقًا، وأن ليس كل متحدث لبق يسعى للخير.

كما أن بناء فضاء إعلامي حر، ومؤسسات ثقافية مستقلة، هو درع حقيقية ضد انتشار هذه الظاهرة.

ويجب أيضًا أن يُمنح الصوت للناقدين بموضوعية، لا أن يُخنقوا باسم «الاستقرار» أو «الوحدة الوطنية».
المديح حين يكون في غير موضعه، لا يبني أمة، ولا يُصلح حالًا، بل هو رصاصة في قلب التغيير.

والمجتمعات التي تُعلي من شأن حملة المباخر، وتُقصي أصحاب الرأي، تجد نفسها عاجلًا أم آجلًا تسير نحو الهاوية بخطى ثابتة، لكنها مغطاة بالزهور.

فالكلمة مسؤولية، والسكوت عن الخطأ خيانة، والتغني بالسراب وهمٌ يُباع في سوق المنافقين.
ولأن الوطن أكبر من كل الأسماء والألقاب، فإننا نحتاج إلى قلم شجاع، وصوت نزيه، وضمير لا تشتريه المناصب ولا تُغريه الأضواء!