شعب لا يزال وفياً لذاته: كيف ساهمت الجغرافيا في تعزيز عزلتنا؟ (3-3)

شعب لا يزال وفياً لذاته: كيف ساهمت الجغرافيا في تعزيز عزلتنا؟ (3-3)

في ليبيا، لم يكن العنف السياسي بعد 2011 مجرّد عرضٍ لأزمة سلطة، بل نتيجة انكشاف هشاشة وطن لم يُصَغ أصلاً كفكرة موحّدة. الأطروحة الأنثروبولوجيا التي تربط بين الجغرافيا الشاسعة، والديموغرافيا المحدودة، وطابع الانغلاق الثقافي ليست فقط وصفاً سوسيولوجياً لحالة اجتماعية، بل مدخلا تفسيريا – وإن لم يكن وحيدا – لفهم ما حدث، فبلد بهذه المساحة الشاسعة، وعدد سكان منخفض، لم يطوّر ثقافة التزاحم، ولا مؤسسات التنظيم، ولا وعياً بالتفاوض أو الصراع السلمي. لقد وُلد من فراغ المسافات، وتربّى على عزلة الجماعات، وانفجر حين سقط الغطاء السلطوي، لأن البُنى الرابطة بين أجزائه لم تكن موجودة، بل تعمدت «السلطة» بتر أي مبادرة للوصل بينها.
فضاء واسع… وروابط هشة
المساحات الواسعة تُنتج علاقات اجتماعية أقل كثافة. ففي ليبيا، خلق التباعد الجغرافي بين المدن والمناطق نظاماً من التفاعلات المتقطعة والمشروطة، قائماً على الضرورة لا على العادة، فالآخر ليس دائماً حاضراً، بل يأتي ويغيب، وهذا ما يجعل الثقة نادرة، والتفاعل انتقائياً، والانتماء ضيقاً. في مثل هذه المجتمعات، لا تنمو «العادة المدنية» القائمة على الاحتكاك والتفاوض، بل تنمو «العزلة الوقائية» التي تجعل الجماعات تنكفئ على ذاتها، وتعتبر الغريب تهديداً محتملاً.
«آخر» قليل لا يفرض قابلية التعدد
الديموغرافيا المحدودة تعني نقصاً في تنوع الخبرات والتجارب، وتؤدي إلى تجانس سطحي داخل كل مجموعة، لكنه لا يُنتج تماسكاً وطنياً، فالمجتمعات الصغيرة الموزعة على رقعة هائلة تميل إلى تعريف الذات بناءً على القرابة والدم والمكان، لا على فكرة الوطن.
وهذا ما جعل ليبيا، منذ نشأتها الحديثة، بلداً بلا قلب ثقافي ينبض للجميع. لم تتطوّر فيها مدينة-مركز تمتص الهوامش، بل تكلست الهوامش ذاتها كعصبٍ سياسي بديل. فحين سقط المركز (الدولة) لم تتقدم نُخب وطنية، بل تقدّمت الجماعات التي لم تنسَ عزلتها الأصلية. وحتى حين حانت مواعيد الهجرة للشمال، رافقت الراحلين ارتباطاتهم، وبتنا نرى تجمعات مؤطرة بخلفيات اجتماعية وقبلية مناطقية. لاحظ – مثلا – انتشار سكان مناطق الدواخل وسكناهم في العاصمة، لتفهم بجلاء كيف استنسخت العزلة في إطار المجموع الماثل!!
الجغرافيا.. ساحة وليست بنية!!
المساحة الليبية لم تتحول يوماً إلى وطن مشترك بالمعنى الحديث للدولة المعاصرة، بل بقيت دائماً في حالة استخدام لا انتماء. القبائل استخدمتها للرعي، الدولة استخدمتها للسيطرة، النخبة استخدمتها للثروة.
لكنها لم تُعاش – بمعناها الرمزي – كجغرافيا مؤسِّسة لهوية جامعة. في الدول المكتظة، تُجبِر الضغوط الجغرافية السكان على تنظيم أنفسهم: في أحياء، نقابات، بلديات، تنظيمات مدنية. لكن في ليبيا، لم تكن هناك حاجة ملحّة لتطوير مثل هذه البنى، فالسعة الجغرافية وفّرت مساحةً للهروب بدل المواجهة، وللعزلة بدل التعايش. لذلك، حين جاء التحدي السياسي لم يكن هناك «نسيج مدني» ليقاوم التمزق، بل كان هناك فراغٌ واسع ابتلع الجميع.
ندرة التفاعل ووفرة السلاح: وصفة انفجار
إذا كانت المعادلة أنه كلما قلّ التفاعل وندر الاحتكاك صارت الجماعات أكثر هشاشة تجاه الاختلاف، فنتيجة ذلك كلما زادت المساحة وقلّ عدد السكان صار العنف أكثر سهولة وانتشاراً.
فالعنف لا يحتاج إلى كثافة، يحتاج فقط إلى انقطاع في التواصل، وفراغ في السلطة، وانتقال غير مهيأ إلى زمن جديد، وهذا ما حدث بعد 2011: جماعات متباعدة، غير مدرّبة على العمل المشترك، تُركت فجأة دون مركز، ووجَد كلٌ منها في السلاح أداةً للتمثيل، لا وسيلة للصراع، فالصحراء التي كانت لعقود حاضنة للترحال، تحوّلت إلى ميدان مفتوح لكل أشكال الانهيار.
الجغرافيا ليست قدراً جامداً، لكنها تصبح قدراً حين تفشل الدولة في تحويلها إلى تعدد. هي ليست بالضرورة عائقاً، لكنها تتحول إلى لعنة حين تُدار بالإنكار أو الاحتواء القسري.
في النُظم الديمقراطية الناضجة، ثمة فسيفساء هوياتية متكاملة، فالهويات المحلية لا تعني الانفصال، بل قد تشكل روافد للهوية الجامعة إذا ما تم الاعتراف بها سياسياً ورمزياً، وإدماجها في سردية وطنية لا تلغي الأطراف لحساب المركز، بل تعيد صياغة المركز من الأطراف.
وبهذا المعنى، فإن ليبيا – كما هي اليوم – تعيش جغرافيتها بوصفها قدراً سياسياً مفروضاً، لا معطًى تعددياً مُمكّناً. أما التحوّل من «قدر» إلى «فرصة»، فيتطلب مشروعاً ثقافياً/سياسياً يعيد تعريف العلاقة بين الناس والأرض: لا كملكية جغرافية، بل كهوية مدنية مشتركة تُبنى عبر الزمن والتفاعل والمؤسسات.
نُعيد بغير تواضع، هذه الملاحظات ليست دراسة، بل تحتاج تعميقا لفهم قضية الجغرافيا الشاسعة ومحدودية السكان، في إطار إعادة صياغة مفهوم بلد/وطن، لم تترك له الظروف مساحة طبيعية للتفاعل، ولا يبدو أنها ستتيح له ذلك قريبا.