عبدالسلام العجيلي: مغادرة شاعر تمسك برفض شرب ماء البحر

عبدالسلام العجيلي: مغادرة شاعر تمسك برفض شرب ماء البحر

لم ينسج شاعر درنة وليبيا عبدالسلام العجيلي، الذي رحل عن دنيانا الأيام الماضية، كلماته إلا تعبيرا عن ذاته بالتأكيد، ثم ترسيما لمواقفها مع الحياة والناس، انتصارا لقدسية اللحظة التي يغتسل بحضورها في كل مرة من رواسب القلق والتشوه، ويدفع قصائده، وليدة هذا الحضور، كبلورة يحفها بياض ساحر، تداعب وجدان الروح وتحتضن التراب، تلك بعض همسات شاعر لم يشغف بالأضواء يوما، ولم تجرفه النرجسية الشعرية إلى هوس الظهور، لذا فالقصيدة لديه تحضر مشبعة بالحب والصراحة، حب يأنف التزلف، وصراحة لا تبالي بالحسابات.

في أرخبيله الشعري، يأنس العجيلي كثيرا بالمكان، ويسبغ عليه كينونته ومشاعره تجاهه، وغالبا ما تتجه إشارات البوح لمدينة الياسمين التي يضعها في صورة أنثى مجللة بنثر الوجد، ما يمنح الشاعر هامشا من الإبحار في كثير من تفاصيل تاريخها ورموزها، ولحظات السكون والصخب، أو نقل تلك النثرية من أنثى متحققة في سيرته الحياتية إلى صورة رداء شعري يلقيه على جسد المدينة الحالمة.

في قصيدة «كل عام وأنت» توجه بوصلة الوجد للذات الشاعرة شراع الرحلة إلى ضفاف الأنثى المتصورة في أرخبيل الخيال، ناحتا هيئتها وانفاسها وملامح من سمامتها الظاهرة، مرة على سبيل استكمال سيرتها معه باستنطاق خارطتها النفسية، ومرة على سبيل الترميز بتلك الهيئة، لا لاقتفاء أثر المدلول الأنثوي في مدينته الساحرة: «الآن ../وقد توجتني أنخابك / سلطانا على / عرش الكلام«. إذا لكي تتحدد عناصر هذه المعادلة فكان لا بد من توصيف عنصرها الرئيس، وهو نخب الثقة، حيث يمكن للكلام أن يتقدم خطوة نحو تدشين رومانسي للقاء سيصبح عنوانا للاندماج والتماسك، تضلله كيمياء الروح: «فاسمحي لي أن أطلي أظافرك / بدمي الذي جففته الحروب».

ووفق معطيات الثقة، وأثرها المتسرب بقوة في جسد الذات الشاعرة، تتبلور تدريجيا عناصر المصارحة، وطرح كل أسوار الشجن المتكلف. هنا يتكون عنصر آخر من الوجد، وهو استدراك الزمن.. الزمن الذي ينفلت إلى غير رجعة غير عابئ بحمولة العاطفة ولا سدنتها، لذا كان الموقف يستدعي إلغاء لمحة من إلماحات الخجل: «لا أقبل الأعذار / لا تقولي سرقت الريح أجفاني / وفرت الحناء من قدمي». وبذلك فالزمن سيتوقف عند جدارية الشجن المكبل بناموس التقاليد التي لا بد لها أيضا أن تختفي لبرهة حتى يتسنى له البوح: «الليلة لن أترك الشوارع بلا أماني / سأؤثث الأرصفة بالأصدقاء / والشرفات بالمواقيت / وأنتظر».

هذا الانتظار لن يمنح عاشق اللحظات عمرا آخر، لكن يجعل الرؤيا أكثر اتساعا داخل وخارج جغرافيا الجسد، شكلا متصورا للحياة الفيزيائية، وهي تمنح للحياة الجوانية خيارات عديدة للتعبير عن كينونتنا، وتخلق مجالا أبعد للرؤيا، ممزقة كل أشرعة الإبحار إلى نقطة البداية، حيث ستكون محطة اللقاء منعطفا وجوديا آخر.

اعتراف آخر
تتجه اللغة إلى محادثة النصف الآخر من تمظهرات الكينونة الأنثوية عبر استنطاق مفردات المجال الحيوي الجامع (جغرافيا المكان) الذي يظهر في خطاب الذات الشاعرة متشابكا مع ظلال حواء، لذا كان عنوان النص «جميلة رغم كل شيء» مدخلا لجمال «درنة»، سالكا في بوح ماضاوي كل وشائج العلاقة مع المكان وتنهداته الزمنية، ومعددا محطات الذكرى مع حب لا ينتهي إلا ليبدأ: «هنا / كانت زيتونة يضيء زيتها وحشة الأزقة في ليالي الشتاء الحزينة / هنا / حكاية حب لعذراء حملت نسرينها /وصعدت تصلي».

يمضي النص إذا متواصلا مع وهج الذاكرة وعنفوانها وقبسها المتواري خلف الأشجار والأزقة، وصوتها المختبئ خلف الأيام بكل حمولتها، تحكي سيرة أناس تشربوا الصبر وتسلحوا بالانتماء، تناجي عيونهم السهول والهضاب والجبال، وتصنع من موسيقى الشلال وجها للأمل رغم الألم: «لأننا نريدك جميلة / وقفنا في طوابير الخبز / ونحن على مرمى حجر من سهولك الشاسعة / اشترينا الماء ونحن قبل هدير شلالك بخطوتين /علمنا أولادنا وبناتنا الصبر والأحلام البسيطة».

وجع وإجابة
يقترب الشاعر في كل مرة عبر تاريخ المدينة من وجع التهميش أو سطوة السلطة في بلد الياسمين بعيدا عن دائرة الاهتمام، محاصرا بالصمت والخذلان، وكان لزاما من تتبع أثر هسيس عوالم تتوسد الزمن، وتحاور مرآة التاريخ، تقدم فيه ماضيها وحاضرها عبر قصيدة «المشواشي التعيس»، العائد ليحكي سيمفونية الوجع: «فرشت لبكاء العالم قلبي الطري / وهبطت إلى الغبار».

يخبرنا النص عن فرادة اللغة في توصيف واقع ما كان له أن يكون هكذا، وحيث كان وجب على الذات الشاعرة النزول: «مصوبا قصائدي المرتبكة إلى عينيك البعيدتين /أنتعل ثقبا في الصباح / أهرب في جيب الظهيرة قبلتي / اقترح عظامي حطبا لمساءات الرحلة».

ولأن الرحلة كانت على هذا القدر من الأعطاب، فاستلزم ذلك التسلح لمواجهة العاصفة وأبراقها في نص «لن أشرب من ماء البحر»، الذي يسجله الشاعر كوثيقة حية في انتصار القصيدة للوطن ضد جنون السلطة، ويتجلى فيها دفق التمرد والشجاعة واختبار مباشر للبصيرة الشعرية، وهي تتحدى استفزاز الغبار: «سأسخر من كل فجر كاذب /ومن كل نهار مغشوش / ولن أسمح للغبار أن يعتلي جلد الكلام».

يرفض الشاعر هنا بسخرية يغلفها الألم كل مظاهر السكون القاتل، والانجرار داخل مربع الطاعة العمياء، وتحويل الحياة إلى أوامر ونواهٍ دون اعتبار لقدسية التعبير الإنساني الذي دافعت عنه القصيدة بقوة: «حتى وإن تجعدت الظلال / وصرت ديكا أعمى / سأرقص وأغني / وسوف يتبعني العشاق والدراويش».

هكذا تبدو ترانيم الضفاف التي يبحر إليها العجيلي في كل مرة، متمسكا بمجداف الحنين، حنينا يقوده إلى الفضاء الدرناوي بكل تفاصيله، حيث تتكئ المخيلة على فيض وفير من الجمال وسحرالأمنيات.