صراع المال: ميزانية مرتفعة والخلاف يحتدم بين النواب والبنك المركزي

رأى اقتصاديون في الجدل الدائر حول مشروع الميزانية انعكاسا لصراع المال بين الأطراف السياسية، ومظهرا لأزمة تتجاوز الأرقام الواردة في جداول الإيرادات والإنفاق، يكشفان خللا مؤسسيا وغيابا للشفافية والحوكمة بين المؤسسات.
وفي مداخلاتهم خلال برنامج «وسط الخبر» المذاع على قناة الوسط «WTV» أمس الأحد، أوضحوا أن تضخيم التقديرات وتضارب البيانات بين مجلس النواب والمصرف المركزي ومؤسسة النفط جعل من الميزانية المقترحة «وثيقة غير واقعية»، قد تفضي إلى مزيد الأزمات الاقتصادية والمالية إذا لم يُعَد النظر فيها بشكل جذري.
ميزانية متضخمة
وقال الأكاديمي الاقتصادي بجامعة بنغازي، علي شريف، إن الجدل الدائر بين البرلمان والمصرف المركزي بشأن الميزانية يعكس إشكاليات تقنية في المقام الأول، وإن أخذ طابعاً سياسياً محدوداً، مشيرا إلى أن مجلس النواب قدّم مشروع ميزانية بقيمة 160 مليار دينار، تضمن فائضاً يقدَّر بـ23 مليار دينار، وهو أمر «مستغرب جداً» في ظل تراجع أسعار النفط الذي يمثل المورد الرئيسي للبلاد.
ولفت شريف إلى أن تقديرات الإيرادات والنفقات في مشروع الميزانية جاءت «متضخمة»، ما دفع محافظ المصرف المركزي ناجي عيسى إلى رفضها ومطالبة البرلمان بالتشاور ومراجعة الأرقام مع الجهات المعنية للوصول إلى تقديرات أكثر واقعية تتناسب مع قدرة المصرف على تغطيتها، مضيفا أن الاجتماع بين الطرفين عُقد بالفعل خلال الأسبوع الماضي، وأكد أن الجانب الفني والقدرة المالية للمصرف يجب أن تكون الأساس في تحديد حجم الميزانية، بعيداً عن التقديرات المبالغ فيها.
أرقام خيالية في مشروع الميزانية
وتتفق المستشارة في إدارة أموال قضايا الدولة، نجوى العجوري مع شريف في أن مشروع الميزانية العامة الذي أُحيل في بداياته إلى اللجنة المالية بالبرلمان تضمن «أرقاماً خيالية وغير مطابقة للواقع»، مشيرة إلى أن التقديرات اعتمدت على بيانات مضخمة من مؤسسة النفط، تضمنت أخطاء جسيمة في احتساب الإيرادات.
وأوضحت العجوري أن المؤسسة أدرجت حجم الإنتاج باعتباره إيرادات، وهو أمر «غير مسبوق»، ما أدى إلى وجود تضارب واضح بين الأرقام المعتمدة من المؤسسة، وتلك الواردة من المصرف المركزي، ما اضطر اللجنة المالية بالبرلمان إلى إحالة رسالة لعقد جلسة عاجلة، بعدما تبيّن أن المشروع لا يعكس الواقع الاقتصادي، واعتبرت أن من حق محافظ المصرف رفض هذه الأرقام.
وأكدت أن المحافظ استجاب بالفعل لملاحظات اللجنة، وطلب مراجعة التقديرات، غير أن البيانات الصادرة عن مؤسسة النفط ظلت «غير صحيحة» وبعيدة عن الواقع، ما جعل من الصعب بناء ميزانية دقيقة وواقعية، مشددة على أن الأزمة تتجاوز مجرد إعادة الصياغة أو مراجعة الأرقام، إذ تعكس خللاً أعمق في البنية المالية والإدارية للدولة الليبية، وأكملت: «لا أعتقد أن الميزانية ستسير بشكل صحيح، لأن حجم الإيرادات المعلن غير مطابق للواقع، وإذا كان الأساس خاطئاً فلا يمكن ضبط تقديرات الإنفاق أو العجز».
تراكمات أخطاء سابقة
ويرى أستاذ الاقتصاد بجامعة مصراتة، عبداللطيف طلوبة، أن الأزمة الحالية المتعلقة بالميزانية العامة في ليبيا ليست وليدة اللحظة، بل هي نتاج تراكمات أخطاء سابقة جرى تجاوزها بطرق غير صحيحة، حتى وصلت البلاد إلى «طريق مسدود».
وأوضح طلوبة، في حديثه إلى «وسط الخبر»، أن أبرز الإشكاليات تكمن في «غياب الشفافية والحوكمة والمصداقية» داخل المؤسستين الاقتصاديتين الأهم في ليبيا، وهما مؤسسة النفط والمصرف المركزي، مشيرا إلى وجود فجوة في المصداقية بين الطرفين وتبادل للاتهامات بشأن الأرقام والبيانات، في ظل عجز البرلمان عن فرض سلطته أو الوصول إلى اتفاق ملزم بينهما.
وأضاف أن التوسع الكبير في الإنفاق منذ العام 2011 وحتى اليوم خلق نمطاً استهلاكياً يصعب التراجع عنه، في وقت أصبحت فيه إجراءات التقشف «ضرورة ملحة»، غير أن المواطنين والمسؤولين على حد سواء لا يقبلون التنازل عن مستويات الإنفاق الحالية، منبها إلى أن القانون المالي للدولة ينص على استمرار الحكومة في الإنفاق بنسبة 1/12 من ميزانية السنة السابقة عند تعثر اعتماد ميزانية جديدة، لكن الإشكالية أن السنة الماضية لم تُعتمد فيها أي ميزانية، ما خلق «فراغاً تشريعيا» أربك السلطة التنفيذية والتشريعية معا، وتساءل: «هل يُحتسب الإنفاق على أساس ميزانية معتمدة، أم مقترحة، أم منفذة فعلياً؟»، مؤكداً أن هذا الغموض فاقم الأزمة.
وأكد طلوبة أن البرلمان يواجه بدوره صعوبات في الحصول على النصاب القانوني لتمرير أي تشريعات جديدة، فضلاً عن غياب التنسيق مع المصرف المركزي، ما يعكس ـ حسب وصفه ـ ضعف أداء اللجنة المالية البرلمانية وعدم قدرتها على ضبط التوازن المطلوب.
ميزانية أم موازنة
وقال أستاذ الاقتصاد السياسي، محمد البرغثي، إن ما يُطرح في ليبيا تحت مسمى «ميزانية» هو في الواقع «موازنة» لأن الأرقام الواردة فيها تعكس إيرادات ونفقات متوقعة وليست فعلية، مشيراً إلى أن الصياغة الحالية للأرقام والجداول تثير الشكوك حول جدية معدّيها أو إدراكهم لاستحالة تحقيقها.
وأشار إلى أن التقديرات قد تكون وُضعت لأهداف سياسية تتعلق بالضغط على مصرف ليبيا المركزي لانتزاع تنازلات في ملفات أخرى، لافتاً إلى أن المركزي لا يستطيع تمويل موازنة بهذا الحجم، خصوصاً ونحن في منتصف السنة المالية.
وأوضح البرغثي أن الاعتماد شبه الكامل على الإيرادات النفطية ـ التي تشكّل نحو 90% من موارد الدولة ـ يجعل الأرقام غير واقعية في ظل تذبذب أسعار النفط وتراجع مستويات الإنتاج، مؤكدا أن الأرقام الرسمية التي يمكن الركون إليها هي تلك الصادرة عن منظمة «أوبك»، وليس تقديرات داخلية قد لا تعكس الواقع، وانتقد غياب الدراسات الفنية والاقتصادية التي تستند إليها التوقعات، متسائلاً: «على أي أساس وُضعت هذه الأرقام؟ وأي مراكز أبحاث أو شركات متخصصة دعمتها؟»، واعتبر أن ما يجري يفتقر إلى التخطيط المسبق والشفافية، خلافاً لما تقوم به دول أخرى تُعد موازناتها بشكل مبكر ودقيق.
وحذّر من أن ممارسة الضغط السياسي على المصرف المركزي عبر أرقام غير واقعية قد تفضي إلى نتائج خطيرة على استقرار الاقتصاد الوطني، قائلاً إن استمرار هذه الضغوط قد يؤدي إلى «انفجار الأوضاع مستقبلاً، خاصة فيما يتعلق بسعر الصرف»، مذكّراً بأن قدرة المركزي على التحمل ليست بلا حدود.
تردد قناتي «الوسط» (Wtv) على النايل سات
■ تردد الوسط (Wtv 1): HD 11096 | أفقي | 27500 | 5/6
■ تردد الوسط (Wtv 2): SD 10815 | أفقي | 27500 | 8/7
– اضغط هنا للمشاهدة عبر البث المباشر لقناة «الوسط»
– اضغط هنا للمشاهدة عبر صفحة قناة «الوسط» على «فيسبوك»