ثقافة القاهرة في التسعينيات!

كنتُ والصديق الروائي السوري خليل النُعيمي في زيارة للروائي المصري جمال الغيطاني في مكتبه بأسبوعية «أخبار الأدب».. كان خليل الطبيب الجرّاح في فرنسا قادماً من باريس في إجازة قصيرة، وأنا قادم من ليبيا كالمعتاد حين كنتُ أشرف حينها على إخراج وطباعة مجلة «المجال» الثقافية في القاهرة، وكان ضرورياً في أثناء كل زيارة الالتقاء بالأصدقاء.
في تلك الزيارة أهدانا الغيطاني أحدث إصداراته، وأهداه النعيمي آخر إصداراته، وأنا أهديته دسكة من أجمل الأعمال الموسيقية للتركي «عمر فاروق» كنتُ قد وعدته بها أثناء حديثٍ سابق عن موسيقى الروح والتماهي بمشاركة الصديق الروائي عزّت القمحاوي الذي كان يشغل حينها مديراً لتحرير أخبار الأدب، وكان تعاون معي بكتابة زاوية ثابتة في مجلة «المجال» بجوار الصديقة الشاعرة والمترجمة فاطمة ناعوت، وشُرفات ثقافية استضافت عدداً من أدباء مصر ومثقّفيها، منهم المفكِّر الكبير الدكتور عبدالوهاب المسيري، والشاعر محمد عفيفي مطر، والروائي إبراهيم أصلان، والروائية ميرال الطحاوي.
في ذلك اللقاء ودّعنا خليل النُعيمي الذي كان يجهِّز نفسه للعودة في المساء إلى باريس، وأنا بقيتُ في الصحيفة لإتمام حوارٍ كان يجريه معي الكاتب الصحفي محمد شُعير.. وعند العصر خرجت مع الغيطاني في أثناء زحمة مغادرة الصحفيين لمبنى الأخبار.. لقد كان مكتب الغيطاني مزاراً لمعظم الأدباء العرب الذين يزورون القاهرة، في إجازات أو في مهرجانات ومؤتمرات، واللقاء به كان ممتعاً وفائدة ثقافية مهمّة تختصر زمن القاهرة الثقافي، كما تختصر البحث في التراث المصري القديم والحديث، وفي أشكال العمارة التي تفرّغ لها في برنامج تلفزيوني مشوِّق.. وكان نادراً أن تلتقي الغيطاني في مكان آخر بما في ذلك معرض الكِتاب الموسمي، على أهميته، وهو بخلاف ابن حارته «الجمّالية» الكبير نجيب محفوظ الذي اعتاد ارتياد أماكن محددة في الصباح والمساء، قبل التقاعد وبعده.
لقد عايشتُ بداية صدور «أخبار الأدب» التي أسّسها جمال الغيطاني العام 1993 كدورية ثقافية تصدر أسبوعياً عن دار «أخبار اليوم»، وهي صحيفة أصبحت ركيزة ثقافية مهمّة في المشهد الثقافي المصري، ورديفاً ثقافياً مع مجلات ثقافية راج صدورها في تلك الفترة، مثل «القاهرة» و«إبداع».. وقد بدت أخبار الأدب رصينة في موادها وفي إخراجها، مّا ميّزها عن بقية الملاحق الثقافية الـ«تابلويد» التي صدرت وتصدر عن بعض الصحف العربية في مشرق الوطن العربي ومغربه، وكان سبقها جميعها في لبنان مُلحق «النهار» الثقافي الذي أصدره الشاعر أنسي الحاج عام 1964، ثم في ليبيا صحيفة «الأسبوع الثقافي» التي صدرت في يونيو من العام 1972 برئاسة الروائي أحمد إبراهيم الفقيه.
بين المكتبات ودور النشر والصحافة في القاهرة، كان يقيم أصدقاء عرفتهم عن قُرب، وكان بيننا عقد وفاء لم ينقطع سوى برحيلهم، وإن كانت الذكريات لا يمحوها الموت ولا تمحوها السنون التي تمرُّ بجفاء على الأماكن الخالية من أصواتهم وأنفاسهم.. فها هي «أخبار الأدب» مستمرّة في الصدور، لكنّي لم أعُد أزورها لأني سوف لن أجد الغيطاني في مكتبه كالعادة مرحِّباً وسعيداً بالحديث معي، كما لن أجد المكتب الذي بجواره مفتوحاً ليناديني القمحاوي بصوته الهادئ: «تعال يا سالم».
صديقنا الثاني الثابت في مكتبه بمجلّة «المصوّر» كان يوسف القعيد الذي كان بشوشاً دائماً عند استقباله لضيوفه وفتح الحوارات معهم حتى وهو منشغل في مراجعة بروفات تشطيب العدد، وكان يعرف، ودون أن يسأل، أن بعض ضيوفه لم يكونوا قاصدين زيارته خصيصاً، وإنما تعويضاً عن عدم وجود الأستاذ رجاء النقّاش في مكتبه.. ففي زمن قبل الهواتف المحمولة تحدث مثل هذه المواقف، خصوصاً مع خيبات الاتصال بين الهواتف الأرضية!
يوسف القعيد كذلك كانت مشاويره اليومية محدّدة ومستعجلة ما لم تكن منسّقة مسبقاً، وهو دقيق في مواعيده كما مواقيت اللقاء عند الحاج محمد مدبولي بطلعت حرب، وهو المكان المناسب الذي كنت ألتقي فيه أيضاً بـ«الفاجومي» أحمد فؤاد نجم، وكان الحاج مدبولي في غاية السعادة وهو يعلّق مبتسماً؛ «يا سالم ما تخلّيك معانا ديماً عشان نشوف الوجوه الحلوة دي كل يوم» ليجزره نجم بابتسامة مائلة قائلاً «طب هات شاي كمان».. فكانت سعادتنا بالحاج مدبولي كبيرة بكرمه وبمواقفه التاريخية مع الثقافة والمثقفين، وكنتُ أصفه بحارس ثقافة المحروسة القديم.. رحمة الله على مدبولي ونجم، ورحمة الله على تلك الأيام.
أمّا الصديق البيتوتي إبراهيم أصلان فبين روايتيه، «وردية ليل» في العام 1991 و«عصافير النيل» في العام 1999، كان في «قصور الثقافة» يجمع نماذج من السرديات العربية في سلسلة أدبية مميّزة كانت روايتي «ليل بيزنطي» من بين اختياراته العربية.. بعد زيارتي له مرة واحدة في بيته بـ«المقطّم» أصبح اصطياده يوم الاثنين ممكناً في مكتب صحيفة «الحياة»، وفي المساء بقهوة «زهرة البستان» مع جاره في المقطّم القاص سعيد الكفراوي، وكذلك مع الشاعريْن حلمي سالم وعفيفي مطر.
تلك الأماكن القديمة في القاهرة وسط البلد، كانت مراكز ثقافية مفعمة برائحة الصحف في أيدي الباعة المتجوّلين، وبرائحة الكُتب والمجلّات المفروشة على الأرصفة عند خطى العابرين، وفي ندوات «الأتيليه» برحابة الكاتبتيْن فتحية العسّال وسلوى بكر، والكاتب محمد مستجاب، والشاعريْن سمير عبدالباقي وفريد أبوسعدة وآخرين.. ويُحسب لهذه المؤسسة الثقافية العريقة في السنوات الأخيرة، انفتاحها على الثقافة العربية واستضافتها لعددٍ من الأدباء الليبيين والاحتفاء بهم وبإصداراتهم الأدبية، في مبادرة تكريم للعطاء الثقافي الليبي وفتح حوار الثقافة بين مثقفي البلدين بما يعزِّز الرؤى الثقافية المشتركة.
قبل أربعة عقود كانت القاهرة تضيء بوجوه أدبية فاعلة في المشهد الثقافي المصري والعربي، وهي الامتداد التاريخي لجيل كبير من الروّاد رحل عن المكان وظلّت مآثره تؤسّس لنهضة مصر رغم التأثيرات السياسية، الخارجية والداخلية، على واقعها الاجتماعي والاقتصادي، لكن ظلّت المعرفة بحمولاتها الثقافية التنويرية، هي الحصن المنيع المؤسَّس تاريخياً على كيان الهُوية الوطنية، نتاج الفعل الثقافي وديمومته.