الكاتب المصري حمدي الجزار: الأعماق الغنية في الأدب الليبي تعبر عن تنوع الهوية الوطنية

الكاتب المصري حمدي الجزار: الأعماق الغنية في الأدب الليبي تعبر عن تنوع الهوية الوطنية

الروائي والقاص حمدي الجزار صوت إبداعي مصري مولود في محافظة الجيزة المصرية العام 1970، حاصل على ليسانس الآداب في الفلسفة من جامعة القاهرة 1992، عضو باتحاد الكتاب المصري، ويعمل مشرفاً على مركز أبحاث القناة الثقافية بالتليفزيون المصري.

صدرت له أربع روايات هي «سحر أسود» و«لذَّات سرِّية» و«الحريم»، و«العروس»، وكتاب نثري بعنوان «السُطور الأَربَعة». لأعماله خصوصية وبصمة تميزه، استطاع بأعماله الروائية وضع اسمه بين الكتاب الجادين في الوطن العربي، وتوج ذلك بحصوله على عديد الجوائز، ومنها جائزة «مؤسسة ساويريس» للأدب 2006، وجائزة «بيروت39»، وجائزة أفضل رواية مصرية من معرض القاهرة الدولي للكتاب 2015. 

كما تُرجمت أعماله إلى الإنجليزية، والتركية، والفرنسية، والجورجية والأوكرانية، وهو زميل برنامج الكتابة الدولية (1WP) جامعة أيوا، بالولايات المتحدة الأمريكيةمنذ العام 2007.

التقته «بوابة الوسط» لمناسبة صدور آخر رواياته «العروس» ليشاركنا رؤاه حول التحديات الفنية في نسج الخطوط السردية المتوازية، وتأثير خلفيته في الفنون البصرية على أسلوبه الوصفي المميز، وانتشار أعماله المترجمة عالميًا، كما يسلط الضوء على حضور الأدب الليبي في المشهد الثقافي المصري والعربي.

هل قرأت لكتاب ليبيا؟ من أبرز من قرأت لهم، وما أهم ما يميز الأدب الليبي من وجهة نظرك؟
نعم، أثناء دراستي الجامعية قرأت بعض أعمال إبراهيم الكوني، وتأثرت بعمقه الفلسفي، وتصويره العلاقة بين الإنسان والطبيعة، وبحثه الدائم عن الهوية. وقرأت لأحمد إبراهيم الفقيه ثلاثيته الجميلة «سأهبك مدينة أخرى»، «هذه تخوم مملكتي»، و«نفق تضيئه امراة واحدة»، وبعد أن التقيته أثناء إقامته في القاهرة صرنا أصدقاء، وقرأت للكاتب الكبير محمود البوسيفي مقالاته التي يكتبها كقصائد وقصائده التي يؤرخ من خلالها للاغتراب والوجع والحنين، وهو أروع مثال للأديب والإنسان الليبي، كما قرأت أعمال لكتاب آخرين أذكر منهم محمد المغبوب وسالم الهنداوي.

يمتاز الأدب الليبي بإشكالية تميزه وعوالم ثرية أرجعها إلى هوية وطنية وثقافية تعكس تنوع وغنى المجتمع الليبي بتراثه العربي والأمازيغي والإسلامي، علاوة على التجربة السياسية التي تركت أثرها في كتابات الأدباء، كتعبير عن القهر والظلم من ناحية، وترجمة شعور الغربة والحنين من جهة أخرى.

ما الذي يحتاجه الأدب الليبي ليعبر أكثر إلى القارئ العربي؟
لدي انطباع دائم أن الأدب الليبي جزء لا غنى عنه على خريطة أدبنا العربي، أما ما يحتاجه الأدب الليبي ليعبر أكثر إلى القارئ العربي فالكتاب الليبيون أدرى به مني، إننا جميعًا كأدباء عرب نسعى إلى أدب راسخ ومعاصر يتحدث إلى العرب أولًا، وإلى العالم كذلك، وهذه مهمة كبرى يقدم كل كاتب إجابته عنها من خلال عمله الأدبي، ونشاطه الإبداعي.

هل ترى أن حضور الأدب الليبي في المشهد الثقافي المصري؟
الأدب الليبي أدب متميز، وله حضور في مصر والعالم العربي، فدائمًا ما تجد كتابًا ليبيين حاضرين بإبداعهم في المجلات والجرائد وسلاسل الإبداع المصرية، ودور النشر المصرية، وحاضرين بأنفسهم في الفعاليات الثقافية الدورية كمعرض الكتاب والملتقيات الأدبية، وكضيوف عبر وسائل الإعلام المصرية، خاصة على شاشة قناة النيل الثقافية وقد شرفت بدعوة الكثيرين منهم في البرامج التي أقوم بإعدادها.

وتربطني صداقات متينة بنخبة من كتاب ليبيا الرائعين أمثال الأساتذة محمود البوسيفي، وعمر الكدي، ومحمد المغبوب، وسالم الهنداوي، والمسرحي الكبير فرج بوفاجرة، وكذلك الفنان التشكيلي عمر جيهان، صديقي القديم، وبعض الموسيقيين.

في آخر رواياتك «العروس» نسجتَ خطوطا سردية معقدة، ما هي الشرارة الأولى التي ألهمتك، وهل كان هناك حدث معين أو فكرة ما أردت رصدها من خلال هذه الرواية؟
أذكر أن الشرارة الأولى جاءت من انتباهي لزمن متميز، ليلة واحدة لها دلالات متعددة وهي ليلة رأس سنة، هذا النسيج الذي ظهرت به «العروس»، وبنائها تجسد حكمة الزمن من خلال 16 ساعة فقط، تبدأ من الثانية عشرة ليلة رأس السنة، وتنتهي بعصر اليوم التالي. وكان مبدأ البناء، إن صح هذا التعبير، هو «أن كل شيء مرتبط بكل شيء آخر». كل شخصية لها علاقات وثيقة وقوية بغيرها، وكذلك كل حدث.

شخصيات مثل الحاج مرزوق عشم الله وشاهين تحمل طابعًا قريبا من الأساطير، كما هو الحال مع شخصية ريحان في رواية «سحر أسود». هل هذا توجه مقصود في أعمالك، وما الذي يستهويك في خلق مثل هذه الشخصيات التي تتجاوز الواقع المباشر؟
ربما تكون «العروس» ككلٍّ متعددة التأويلات، لكنها ليست أسطورية إن عَنينا بالأسطورية «اللاعقلانية أو الخرافة»، وربما تشير شخصيات الرواية كلها، وليس مرزوق عشم الله، وشاهين وحدهما، إلى دلالات ومعانٍ أبعد منها، لكنها شخصيات مغروسة في واقعيتها؛ أي ثمة شخصية فردية يمكن أن تكون قد عاشت بينا أو تعيش اليوم ، وقصة يمكن أن تكون قد وقعت بالفعل، أو يمكن أن تقع في المستقبل في حياتنا اليومية.

– الكاتب الليبي إبراهيم الكوني شخصية العام الثقافية في «معرض الشارقة للكتاب 2023»
– حفاوة عربية بتجربة الكاتب الليبي سالم الهنداوي

وحين قرأ الراحل محمد البساطي «سحر أسود» قال لي إن شخصية ريحان لا تأتي للروائيين كثيرًا، وإنها شخصية فريدة بالفعل. وتساءل بضع نقاد عن ظهورها المحدود، ورأى آخرون أني نسيتها!
– رمزية الاسم في «العروس» يتغير مدلولها على مدار الرواية. كيف أردت للقارئ أن يرى هذا المكان؟ وما دلالات الاسم في سياق الأحداث والشخصيات التي تدور حوله؟

منذ بداية كتابة الرواية كان لدي عنوان لها، هو اسم المطعم الفاخر الذي تدور فيه الأحداث، ولكن هذا الاسم الذي وضعته في البداية تغير مع التقدم في الكتابة حتى صار «العروس»، فغيرت عنوان الرواية كلها إليه، وكلمة العروس كما تعلم تشير إلى المذكر والمؤنث في نفس الوقت، فنقول: «هو عروس وهي عروس»، ولما كان لدينا في الرواية شخصيتان أساسيتان هما «خالد عبدالباري» و«سامية بشندي»، فسيذهب فهم القارئ إلى أحدهما أو كليهما، كما استخدمت كلمة «العروس» أيضًا في سياقات أخرى ومتعددة بالرواية لأغراض فنية ودلالية، والفهم والتأويل متروك للناقد والقارئ. يرى الكاتب الراحل علاء الديب أن العنوان هو خدعة الكاتب. ولعلي أكون بهذا العنوان قد أحسنت فهم ما يقصد.

سامية والسيد عمر يمثلان وجهين مختلفين للبحث عن الخلاص في عالم مادي. كيف وازنت في رسم رحلة كل منهما؟ وهل ترى أن هناك تقاطعات نفسية أو مصيرية بينهما؟
نعم، هما يبحثان عن خلاص ما، سامية بطريقتها وأسلوبها وما تحمله من قيم ومعايير، وعمر عبد الظاهر قد يلتقي معها في أنهما نشآ في الحي نفسه، والظروف ذاتها، ولكن رحلته مختلفة، هو يرى خلاصه في السلطة والثروة، وهي تبحث عن شيء آخر، ربما، أبعد وأرسخ.

تتناول الرواية صراعًا حادًا بين الماضي الأصيل، ممثلًا في حي السيدة زينب وشخصية «شاهين» وقدرته الخارقة «عرق الصبا»، وبين الحاضر المادي الفاسد الذي يمثله مطعم «العروس». هل ترى أن هذا الصراع لا يزال يطغى على المجتمع المصري المعاصر بنفس الحدة، أم أن هناك أشكالًا جديدة له؟
أود أن أشير أولًا إلى أن أسطورة «عرق الصبا»، هذه القدرة الجبارة، والقوة الاستثنائية التي يمنحها شرب ماء النيل في لحظة سكونه لأحد الأفراد، وهي هنا قدرة شاهين، أسطورة شعبية معروفة ومتداولة وبقيت في ذاكرتي، من عجوز حكتها لي في طفولتي، استخدمتها لأغراض فنية. أما ما وصفته بالصراع بين الماضي الأصيل، وبين الحاضر المادي الفاسد، فأظنه صراعًا بين «التراث» و«الحداثة» وما بينهما من تنافر قيمي بشكل أساسي، وعملية تشكيل مستمر للهوية، وبالطبع يتخذ أشكالًا جديدة كل يوم، ليس في المستوى الفكري فقط، وإنما في مظاهر الحياة المصرية اليومية. مصر بوتقة عظمى فيها ما هو راسخ، وما تختبر صلاحيته، وما تجربه، وما تبلعه أيضًا حتى يصير من قوامها الأساسي، وهي عملية مستمرة لم تعرف التوقف.

تتميز أعمالك بتعدد الأصوات والخطوط السردية، كما في «العروس». ما التحديات التي واجهتها في نسج هذه الخطوط المتوازية؟ وما الذي تضيفه هذه التقنية لعمق الرواية وثرائها؟
= بالنسبة لي، العالم الروائي هو الذي يحدد تعدد الأصوات، أو قلتها، ويحدد كذلك الضمير المستخدم في سرد الرواية كلها. ففي رواية «سحر أسود» كان عالم البطل محددًا: عمله كـ«كاميرا مان»، أصدقاء قلائل، وقصة حبه الجارف لفاتن شهدي التي تكبره بأعوام، ولهذا كان من المنطقي أن أستخدم ضمير المتكلم في سرد الرواية كلها، بينما تظهر الشخصيات الأخرى في الفعل والحوار. وفي رواية «لذات سرية» اتسع العالم، وخرج بطلها ربيع الحاج إلى عالم حي الجيزة مترامي الأطراف، وكثرت الشخصيات، واستخدمت ضمير المتكلم لأن السياق تطلب ذلك. وفي رواية «الحريم»، على الرغم من أنني قسمت الرواية إلى فصول، كل فصل باسم امرأة، مثل «روحية»، و«زبيدة»، و«بطة»، و«أرزاق»، إلا أنني استخدمت ضمير المتكلم لأن بطلنا سيد فرج يروي قصته مع كل امرأة، منذ طفولته وحتى بلوغه الثلاثين، حيث تنتهي الرواية.

– أتيليه القاهرة يشهد حفل توقيع «سردية» المغبوب الجديدة
– منح جائزة الدولة التقديرية للصحافة للصحفي محمود البوسيفي

وفي «العروس» استخدمت، لأول مرة، ضمير الغائب، لأن عالم العروس متعدد الشخصيات الرئيسة، ولا يناسبه سوى الراوي العليم؛ فضمير المتكلم هنا يصعب أن يغطي هذا العالم الروائي بكامله. أما التحديات في نسج «خطوط متوازية» فموجودة دائمًا في كل عمل روائي. 

-تمتلك قدرة فائقة على الوصف الحسي والسينمائي للمشاهد والأماكن، مما يجعل القارئ يعيش الأجواء. هل هي نابعة من خلفيتك و اهتمامك بالفنون البصرية، أم أن عملك التلفزيوني في قناة النيل الثقافية الذي تمارسه منذ العام 1998؟
أشكرك على هذا. ترتبط هذه القدرة التي تصفها برؤيتي لفن الرواية. الرواية فن حديث من فنون القول، سبقه الشعر والمسرح وتلاه السينما، والرواية فن يكتبه فرد وموجه لفرد واحد، قارئ واحد، أما السينما ففن تصنعه جماعة لتشاهده جماعة، وهو فن جامع لفنون متعددة، وفرجة ويُشاهَد، لكن اللقاء بينهما وثيق عبر السيناريو السينمائي، الكلمة المكتوبة التي تسبق كل فيلم، وكل من الرواية والسيناريو دراما وسرد، هنا يلتقيان، لكن كل منهما يظل متميزًا، الرواية عمل تام، تقرأه، أما السيناريو فيقرأه المخرج والممثلون والموسيقيون والتقنيون بهدف تحويل الكلمة المكتوبة إلى كلمة منطوقة، وصور متحركة متتالية، وفيلم نشاهده. الرواية تستفيد من الطابع البصري للسيناريو، والإيجاز والتكثيف، وهذا الطابع ليس جديدًا في أعمالي، بل لعله الغالب في رواياتي، كما هو حال «سحر أسود» مثلًا. وأخيرًا أنجزت تجربة مغايرة، حيث كتبت سيناريو لفيلم سينمائي يصلح لأن يُطبع في كتاب ويُقرأ كعمل أدبي، وفيه أستكشف الإمكانات الأدبية لفن السيناريو.

أتذكر هنا قارئًا، متقدمًا في العمر، قرأ «سحر أسود»، فربّت على كتفي وقال لي: «لقد جعلتني أرى»، أعتبر هذا القول إطراء، فليس من رأى كمن سمع، الرواية كلمة مكتوبة وصامتة لكنها تستطيع أن تجعلنا نرى، دائمًا هناك صورة ومشهد، وأحداث، ومشاعر، وأفكار تلتحم لتشكل عالمًا يمكن للقارئ تأمله، والعودة إليه ليراها بصورة أوضح، ويستكشف فيه ما خفي عنه في قراءته الأولى، الرواية مأدبة الفنون حقًا.

نلت العديد من الجوائز المرموقة مثل جائزة مؤسسة ساويريس، وجائزة بيروت 39، وجائزة أفضل رواية مصرية لمعرض القاهرة. ما أثر ها على مشروعك الأدبي؟
الجوائز الأدبية أنشطة ثقافية مهمة لترويج الأدب وإثارة اهتمام القراء بعمل بعينه، وبكاتب، والجوائز مهمة لكنها لا تصنع كاتبًا، الكاتب يصنعه عمله. وبالطبع أثر نيلي لهذه الجوائز بالإيجاب على استمراري في الكتابة ومواصلة المشوار، كما ألقت على كاهلي مسؤولية ألا يكون عملي الجديد أقل مما نشرت قبله. لقد سعدت بهذه الجوائز لأن لجان التحكيم التي منحتني جوائزها كانت على أعلى مستوى، قامات أدبية ونقدية أكن لها كل تقدير واحترام، وأسعدني كثيرًا تقديرها لعملي.

أعمالك ترجمت إلى لغات عديدة كالتركية والفرنسية والإنجليزية. كيف ترى هذا الانتشار لأعمالك عالميًا، وماذا يعني لك ذلك ككاتب مصري؟
الترجمة مهمة، إذ تجعل الكاتب موجودًا في لغات أخرى، وتمنح العمل حيوات بعدد اللغات التي يترجم إليها. الترجمة جسر عظيم بين إبداعات البشر في كل مكان. وككاتب مصري أرى أن أدبنا لم يأخذ بعد موقعه الذي يستحقه على خارطة آداب العالم، فقيمته الجمالية ومساهمته في إثراء مشهد الإبداع الإنساني أهم كثيرًا من موقعه الراهن. ونرجو أن تدعم المؤسسات الثقافية المعنية ترجمة أدبنا إلى لغات العالم، كما تفعل معظم الدول، وكثير منها ليس لديه ما لدينا على الإطلاق.

بصفتك زميلًا في برنامج الكتابة الدولية بجامعة «أيوا»، وعضوًا في الهيئة الاستشارية العليا لمهرجان القاهرة الأدبي، كيف أثرت هذه التجارب الدولية والمحلية على رؤيتك للكتابة وللأدب؟
صرت أرى أن الأدب نشاط إنساني عابر للمكان والزمان، وأن ما يوحد أدباء العالم هو انحيازهم لقيم الجمال والعدل والتسامح والخير لكل الإنسانية، وأن دورهم حاسم في بلوغ الإنسانية عالمًا أجمل وأفضل.