عبور “الروبيكون”

العنوان أعلاه ترجمة عربية لمثل لاتيني قديم يعود تاريخه إلى العام 49 ق.م، أي زمن الدولة الرومانية، وانتقل منها إلى اللغة الإنجليزية وغيرها من اللغات الأوروبية. وبمرور الوقت تحوّل إلى مصطلح، أو مقولة خالدة.
المثل/ المصطلح في اللغة الإنجليزية (Crossed the Rubicon) يترجم في اللغة العربية: عَبَرَ نُقطة اللاعودة. وقصّته، لمن يشاء الاطلاع، تتوافر في المصادر التاريخية وعلى الإنترنت. تدور أحداثها حول القائد الروماني المشهور تاريخيًا يوليوس قيصر. تقول المصادر إن يوليوس قيصر كان حاكمًا لأحد الأقاليم شمال نهر روبيكون، أي في الأراضي الفرنسية. وحين انتهت فترة ولايته طلب منه مجلس الشيوخ تسريح قواته والعودة وحده إلى روما، لأن القانون الروماني كان يمنع عودة جنرال عسكري إلى روما بجيشه. إلا أن يوليوس قيصر تحدى طلب مجلس الشيوخ وعبر بقواته نهر الروبيكون واتجه إلى روما. وتسبب ذلك في نشوب حرب أهلية انتهت بانتصار يوليوس قيصر. وحظيت روما بأول ديكتاتور، وحظي يوليوس قيصر بدخول التاريخ.
تضيف المصادر موضحة أن يوليوس قيصر نطق بتلك الجملة أعلاه لدى عبوره النهر، وكأنه كان يقول باللغة العربية: «سبق السيف العذل».
لسنا بصدد الحديث عن يوليوس قيصر، لعلمنا بما تركه لنا المؤرخون من تفاصيل تاريخه، ولعلمنا كذلك بتلك النهاية المأساوية التي انتهى إليها مطعونًا بخناجر خصومه من أعضاء مجلس الشيوخ، ومن ضمنهم وأبرزهم كان خنجر صديقه بروتس. فمضى إلى مصيره، وترك لنا ذلك المشهد الدموي الأخير في حياته، وتلك المقولة التي ما زال الزمن يردد صداها: «حتى أنت يا بروتس!».
نقطة اللاعودة، لا تقتصر على يوليوس قيصر. لكل منّا في تجربته الحياتية نقطة مثلها، وربما أكثر. ربما لأن انشغالنا بأمورنا الحياتية اليومية الصغيرة والمقلقة لم يترك لنا وقتًا للتفكير والتدبر فيها. لكن بالتأكيد ثمة واحدة على الأقل اضطررنا فيها إلى، أو ربما اخترنا، عن سبق إصرار وترصد، عبور النهر إلى الضفة الأخرى مستهينين بالمخاطر وبالعواقب، على أمل الوصول إلى الهدف.
نحن في ذلك ربما أقرب ما نكون إلى ذلك المواطن الأفريقي، الذي يقرر، تحت شظف ظروف العيش، الهجرة إلى أوروبا على أمل الفوز بحياة أفضل، قاطعًا الفيافي والصحارى، وعابرا البحر. من دون أدنى شك، فإن ذلك المهاجر ليس غبيًّا، بمعنى أنه يعرف تمامًا ما هو مقدم عليه، ويدرك مخاطر الطريق. واحتمال موته.
نقطة اللاعودة، تبدو بارزة في التاريخ. لا تقتصر على الأفراد والقادة بل تطال الأمم والشعوب. لو التفتنا برؤوسنا للخلف، وألقينا نظرة سريعة على تاريخنا الليبي لوجدنا أن نقاط اللاعودة كثيرة. ولو مددنا البصر إلى ما وراء الحدود لاكتشفنا أننا لا تختلف عن غيرنا من الشعوب المجاورة أو البعيدة، مهما تباينت الفروق واتسعت مساحة الخصوصيات.
تلك النقطة تكتسب أهمية أكثر لدى القادة، لارتباط مصائر شعوبهم بهم. بعضهم اتخذوا قرارات عبور نهر «روبيكون» ومضوا لا مبالين نحو أهدافهم، تقودهم رغبات الاستحواذ على المجد، وكأنهم كانوا ينصتون إلى أصوات في دواخلهم واستجابوا لها غريزيًا. ربما لأن طموحهم حال بينهم وقراءة العواقب. أو ربما ألهمهم قوة وثقة بالنفس تتجاوزان كل خوف، أعمتهم عن تبصر الحقائق والعواقب في حالة الفشل. هل كان القائد القرطاجني حنبعل يعرف مسبقًا أن فشله في اقتحام روما سيقود إلى دمار قرطاج وحرث أرضها بالملح؟
الطرق التي تقود إلى المجد والسؤدد عديدة ومتنوعة، وكلها محفوفة بالمخاطر وقريبة من الموت. ولم تكن في أي حقبة تاريخية مفروشة بالأمنيات الطيبة، بل كمن يمشي في طريق يحفّ به الموت من الجانبين. أولئك القادة المغامرون لا أظنّهم كانوا يجهلون تلك الحقيقة. لكنهم، على الرغم من ذلك، يقررون خوض المغامرة، وركوب المصاعب. بعضهم عبر النهر، ووصل إلى ما يبتغيه، وذاق حلاوة النصر والمجد، إلا أن نهاياتهم كانت مأساوية. أغلبهم على أي حال.