الفلسفة تعبر عن التأمل والتفكير العميق

سالم العوكلي
مثلما فعل القذافي وطغاة آخرون، تشن بعض الحركات الدينية المتطرفة في أجزاء عديدة من الدول الإسلامية حرباً على الفلسفة كنهج تفكري في الحياة وفي شؤونها المختلفة، وفي الحالتين لا يمثل الأمر جدلاً أو صراعاً بين حقول معرفية، لكنه يرجع إلى وسواس الدفاع عن السلطة والنفوذ، وترويض عقل العباد من أجل بسط السيطرة عليهم وتحويلهم من رائدين إلى مريدين، فالجماعات الدينية في النهاية تتحول إلى سلطة، وهذه السلطة سترتبط بمنافع مثلها مثل السلطة السياسية غير الشرعية، وتحتاج كلاهما إلى مواطنة مستسلمة أو رعية ورعة لأجل الاستمرار في السيطرة والتحكم وما يصاحبها من مكاسب ونفوذ.
وهزيمة الفلسفة في تاريخنا أمام هذه السلطات مسؤولة ــ مع عوامل أخرى ــ على ما تعانيه أمتنا الآن من أزمات ومن خسائر في كل مجالات الصراع في هذا العالم الذي يديره العقل والعلوم المختلفة، والدليل أنه بقدر ما تزخر منطقتنا بتوجهات دينية متطرفة، نظل نخسر على كل الجبهات في مواجهة أطراف تبنت كل فروع العلم لتعد قوتها التي تفرض الآن سطوتها، وما يفعله الكيان الصهيوني الآن في المنطقة أمام هذه الحركات العاجزة عن المواجهة بل المتواطئة أحياناً يؤكد خسائرنا الكبرى أمام صلف الحضارات حين لم نُعِدْ ما استطعنا من قوة، والقوة لا تتمثل في السلاح فقط؛ بل في محتوى هذه الأمم المعنوي من قدرة على الإبداع والتخطيط وتحفيز البحث العلمي والتفكر في ما يتطلبه الصراع من عتاد مادي ومعنوي.
إذا ما سعينا إلى تعريف للفلسفة في لغتنا، غير الترجمة التقليدية (حب الحكمة)، فإنه حين تقرأ كثيراً في الفلسفة تكتشف أنه حقل (تفكُّر) بامتياز، وكل ما كان يفعله الفلاسفة أنهم (يتفكرون)، بمعنى أن الإنسان العادي يفكر بينما الفيلسوف أو العالِم يتفكر، ورغم أن هذا الفعل يتفكر أو (يتفكرون) تكرر في القرآن مراراً كدعوة للإنسان لتأمل الظواهر الكونية وتعقيدات الحياة التي تتجدد مع كل طور حضاري، إلا أن الحركات أو الفرق الإسلامية حاربت أو حرَّمت أو كفرت هذا النزوع المعرفي، لا لشيء إلا من أجل أن تحافظ على سلطتها وهيمنتها على العقول الكسولة أو المستسلمة، وكي تحمي نفوذها الروحي والاجتماعي والسياسي من مخاطر التفكر والجدل حيث الإنسان خلقه الله (أكثر شيء جدلاً)، وبالتالي فإن هذا التوجس من الفلسفة في حالة السلطات السياسية أو الدينية مأتاه الخوف من الوعي عبر تكريس عقول مخدرة ومستسلمة ومطيعة، ما يضمن لهذه الطبقات المتحكمة مصالحها ومكاسبها ، بل إن الصراع على هذا النفوذ والمكاسب يحدث بين الأحزاب أو الجماعات الدينية نفسها التي تنطلق من المصدر نفسه للعقيدة، ولأن «كل حزب بما لديهم فرحون» ستنشأ الحروب والتقاتل بين هذه الجماعات المفترض أنها منطلقة من أرضية واحدة، لأن الصراع في أساسه صراع أحزاب وشيع على السلطة يتخذ الدين ستاراً وأداة لحشد من تحولوا من البشر إلى آلات يمكن تشغيلها دون أن تتفكر.
ثمة دعوى مباشرة لعدم تفريق الدين الإسلامي إلى شيع أو أحزاب، ودعوات كثيرة للتفكر الذي يعني إعمال العقل، أكبر هبة من الخالق للإنسان الذي فضله به على كائنات الغريزة الأخرى المبرمجة في شؤون حياتها جينياً. وورد فعل (يتفكرون) ومشتقاته 18 مرة في القرآن الكريم، وكانت معظمها ترد فيما يتعلق بالتفكر فيما نثره الله من آيات (علامات) في هذا الكون وفي أنفسنا وفي كل ما يستحق التوقف عنده وإعمال العقل والتفكر فيه، وبقدر ما ينضج العقل ويتأمل يكتشف المزيد من المعجزات في هذا الكون وفي أدق تفاصيله وقوانينه، والفلسفة عموماً هي أداة لتمرين العقل وإعداده لمثل هذا التفكر، وبعض مما ورد في الدعوة إلى التفكر يأتي بعد لعل «لعلهم يتفكرون» وهي أداة تمني ألا نحيل هذا الجهاز الذكي الذي وضعه الخالق في جماجمنا وحماه بالعظام الصلبة إلى مجرد اسفنجة تمتص ما تقع عليه أو جهاز عاطل عن التفكير. والتفكر إذا ما جعلنا له أسلوباً ونهجاً، فسيكون معناه التفكير الناقد، لأن الفعل تفكر غير فكر، فقد تُفكر في ماذا يجب أن يكون غداء اليوم، بينما لا يمكنك أن تتفكر إلا في أسرار الخلق والكون والحياة، وفي ما يعترض البشرية من مشاكل وأزمات.
وانفرد الإنسان خليفة الله على الأرض بتجربة الوعي التي تجعله يتفكر في كل أمور دنياه ويستفيد من أخطائه، ويجتهد لتحسين حياته وعاقبتها، ولتصل الدعوة إلى حرية الاجتهاد إلى أعلى مستوياتها كما ورد في الحديث النبوي الشريف، في الصحيحين (من اجتهد وأصاب فله أجران ومن اجتهد ولم يصب فله أجر) ولا أجد في اللغات الأخرى قولا يشجع على حرية الاجتهاد (التفكر) أكثر من هذا الحديث. الحياة الدنيا مليئة بالتحديات والمحن التي يواجهها الإنسان الذي خُلق في كَبَدٍ. وهذه التحديات والمحن حلولها موجودة في دماغ الإنسان مثلما كانت اللقاحات التي خلصته من أوبئة فتاكة موجودة داخل جماجمنا، ولكن لا يمكن الوصول إليها إلا بتعليم هذا الدماغ وتمرينه ليخوض في البحث والتنقيب حتى يجد حلولاً لمثل هذه المحن والكوارث، وكُلِّف الإنسان خليفة الله على الأرض بالبحث عن هذه الحلول عبر التفكر في كل ما بثه الخالق من آيات أو علامات في الكون «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ..». والفلسفة كما يرد في أحد تعريفاتها: «تتناول الخير والحق كقضايا أساسية، حيث يسعى الفلاسفة لتعريف الخير، وبيان طبيعته، وكيفية تحقيقه، وكذلك فهم ماهية الحق، ومصدره، وعلاقته بالعدالة والقانون».
غير أن ما يحدث من قبل هذه الشيع والأحزاب من عداء تجاه التفكر والعقل والعلم وحرية الاجتهاد يرجع في حقيقته لكون هذه القيم العظيمة تهدد سلطتهم وسلطانهم ونفوذهم الاجتماعي والسياسي، وهذا ما يبرر اتفاق عداء الساسة والطغاة ورجال الدين للفلسفة، لأن مصدر خوفهم واحد، ويتمثل في خروج الأمور عن سيطرتهم.
ومن هذا المنطلق تحدثت في المقالة السابقة (نجيب الحصادي وتوطين التفكير الناقد) عن أهمية هذا المشروع المتعلق بالتربية العقلية والتنمية البشرية في جوهره، وفي قلب حزن لا يلين، أسعدني هذا المنشور على صفحة (الجمعية الفلسفية الليبية) بتاريخ 25 يوليو 2025 الذي يعبر عن امتنانها لجامعة بنغازي الرائدة دائما في تحقيق المشروع الذي طالما حلم به نجيب الحصادي، ويحلم به كل مشتغل في حقل الفلسفة، وكل مهتم بالتنمية البشرية التي على رأسها تكوين عقول علمية منتجة في كل المجالات، وتحصين هذه العقول ضد مخاطر التلاعب بها، سواء كان هذا التلاعب عبر ما تفرزه الحداثة وما بعدها من تقنيات تعد وتتوعد بالكثير، أو ما تبثه الظلاميات من أفكار ودعاوى تضلل النشء وتذهب به إلى ثقافة العنف والإقصاء. نص المنشور: «تتقدم الجمعية الفلسفية الليبية بخالص الشكر والتقدير إلى جامعة بنغازي، وعلى رأسها الأستاذ الدكتور عز الدين يونس اقنيبر، رئيس الجامعة، على مبادرته النوعية في مناقشة إدراج مادة الفلسفة (التفكير الناقد) في كل كليات الجامعة. خطوة واعية في سبيل تعزيز التفكير النقدي في مؤسساتنا التعليمية، ونقل الجامعة من حفظ المعرفة إلى إنتاجها، ومن التلقين إلى إعمال العقل والنقاش والتأمل. إننا نرى في هذه المبادرة مثالًا يُحتذى، ونأمل أن تُعمم على باقي الجامعات الليبية. كل التحية والتقدير لكم على هذا التوجّه المسؤول».
كما أسعدني منشور د. عارف النايض على صفحته بتاريخ 13 يوليو 2025 الذي يؤكد فيه على ما بدأه أستاذه نجيب الحصادي، والعمل على «الاستمرار في تدريس مادة (التفكير الناقد) في (الجامعة الليبية الدولية) ببنغازي من خلال مقرر الراحل أ.د. نجيب الحصادي، رحمه الله.
أشكر معالي رئيس (الجامعة الليبية الدولية)، أ.د. محمد سعد، وإدارة الجامعة الموقرة، على إتاحة الفرصة لي للاستمرار في تدريس مادة (التفكير الناقد) في الجامعة، بداية من العام الدراسي القادم. وكذلك الاستمرار في الجلسات الفلسفية المتقدمة مع طلبته ومحبيه، رحمه الله.
لقد كان أستاذنا الراحل أ.د. نجيب الحصادي، رحمه الله، حريصا على التأسيس لهذه المادة وتدريسها، بمساندة مجموعة من المعيدات والمعيدين من طلابه المميزين، والذين نسق الجلسات الفلسفية لأجلهم. سنستمر في تدريس المادة، بإذن الله تعالى، من خلال المقرر الذي أرساه أستاذنا الراحل، رحمه الله والذي نشرناه في (مجمع ليبيا للدراسات المتقدمة) بمساندة إخوتنا في (مكتبة الكون). كما أنني سأستمر في تقديم دورات (التفكير الناقد) التي كان يقدمها، رحمه الله، في مدن ومؤسسات مختلفة من خلال (مجمع ليبيا للدراسات المتقدمة)، وباستخدام منهجه مع بعض الإضافات».
ودعماً لهذه المبادرات الغاية في الأهمية، أتمنى من كل الكتاب والمثقفين والنخب الليبية في كل المجالات وبقية الجماعات والمؤسسات الوزارية ذات الاختصاص دعم وتبني هذا المشروع من أجل مستقبل هذا البلد، فأفضل مراحل تاريخنا الإسلامي التي نفخر بها حتى الآن هي التي سادها الانفتاح والترجمة والتفكر وحرية الاجتهاد، بينما الانغلاق أدى بنا لأن نكون مضحكة بين الحضارات.