يوسف القويري يتنقل في المنطقة!

يوسف القويري يتنقل في المنطقة!

تعلقت بالمباني وانزحت عن الكتب، عن الحروف شدني خيط معمار المدينة وأخلاطها من كل شيء ومن اللا شيء، هذه الأخلاط تفوح بالنفط الزيت الأسود، الذي شكل عجين المدينة ودوخ أهلها، غير أن بنغازي وعلى غير عادتها في شارع عمر المختار مدينة محافظة، لهذا بقي الشارع على ما هو عليه بمبانيه الإيطالية وإن شاب المشهد بعيض تغيرات.

سلبت النفس من شباكها فتلقفتني شوارع بنغازي، أقرأ يافطات شارع عمر المختار وملصقاته التي بصقها التجار على حيوطه، تحوطني عزلة عن مشارب الشارع ومشاغل الناس، اندلفت من مكتبة قورينا متخطياً الطريق في تثاقل ضايق السائقين السوقة، تلقتني أقواس ظللتني وسلتني من خيوط الشمس الحارقة، فما الذي أوقعني في هذا الخبل غير القراءة؟

قبل أن تلج مكتبة قورينا وعلى شمالها مقهى تيكا، الاسم الحركي لجيلي جيل السبعينيات إن شئت، وللحق كنا موزعين بين مقهى بازامه ومقهى تيكا، الذي لا شيء يلفت الانتباه إليه، غير كونه ينحشر بالقوة وبالفعل كشق خفي وأنثوي، ليس من عزمه في شيء، غير أن يقول ها أنا ذا، وليؤكد عزمه هذا فليس ثمة كراسٍ خارج أمتاره القليلة، رغم اتساع السقف القوسي أمامه، لم يقطع الرصيف حيث قتلت الأرصفة في مجمل المدينة.

كان شارع المختار الممشى الوحيد في الستينيات، وهو ممشاي اليومي لكن الكثير من الناس هجرته، بعيد أن صار لكل حي سوق، حيث يجد المرء ما يريد قرب بيته، هذه الأيام يتم افتتاح محل في كل زاوية، وانتشرت هذه الدكن كالفطر على وجه المدينة. لكن الشارع لازال يزخر بمكانة يدركها كل صاحب عين حصيفة، كثيرا ما تلتقي كاتبا أو فنانا يجول كما يجول السواح فيه متطلعين ومتبصرين معالمه وتاريخه. كما فيه جال يوسف القويري، حين كان يكتب في جريدة الحقيقة، جريدة المدينة الشهيرة في تلك الأيام، ما يقف القارئ في طابور للحصول على نسخته منها.

كنا نلتقي يوسف القويري طائشاً في الشارع، مشتتاً بقامة منحنية وعيون شاخصة جاحظة ومستريبة، شعره منكوش ورجلاه متباعدتان، يحث الخطى مسرعاً متوحداً في وجع من نقرس يمخره، ننشد إلى هيكل عظمى شارد في اللا شيء، ويجوس كل شيء، قابضاً على اللحظة العابرة باقتدار معلم، جاساً نبض الشارع: المشهد مضحك، ولكن ما وراء ذلك يثير الامتعاض.

«شارع عمر المختار والوقت ما بعد الظهيرة، على الرصيف الطويل سائح يمشي بخطوات وئيدة، في يده آلة تصوير صغيرة وفي تعابير وجهه يرتسم اهتمام كثير، إلى الأمام منه تقبل امرأة ملفوفة في قماش أبيض، يشبه ملاءة السرير، فلا يبدو منها شيء سوى استدارات الأنثى، وعينها غير المغطاتين، التي تجبرها على التلفت كالدجاجة برأسها كله لتلمح ما حولها. الكاميرا تتحرك بسرعة، تجفل المرأة كالفرس، وكأنما صوبت نحوها فوهة مسدس! السائح يريد تصوير زاوية معينة للشارع، وهو خبيث وعفريت لأنه يريد أيضا أن يضع في هذه الزاوية امرأة محجبة، وبالطبع المسألة في نظره مثيرة جداً، ولكن المرأة لا تعرف ذلك. تم المشهد في لحظة خاطفة، ثم ذاب في زحام الشارع دون أن يكترث به أحد، وامتلأت كاميرا السائح بومضة صادقة من الشرق!، آنئذ أحسست بالحزن. فنحن لا نستطيع أن نضع لافتات في الشوارع نكتب عليها: ممنوع تصوير المحجبات».

بين أقواس عمر المختار كنت هائماً، حيث كان يوسف القويري تائهاً، عند محل فيلبس طلعت مكتبة فمحل ملابس أنيقة، كثيراً ما وقفت أعد ما في الجيب وجيوب الأصدقاء، حتى نشتري ما جد لفيروز الرحابنة من مسرحيات، كانت المحطة منها، ومنها أغنية: احنا والقمر جيران، أيقونة جيل يتغدى الكلام بعينيه ويتعشى الرحابنة بالأذن، ويمز بفيروز الخمر المحلي الرديء.

عمارة التأمين تتمدد في الشارع بين فياتورينو وميدان الحوت، تطل شرفاتها من أركان أربعة، كتابة إيطالية ما زالت مصبوغة على جبهتها، ويوشم أكتافها كل إعلان عديم الذوق، عمدانها حملاتها قوية والبدروم غطته الأيام بالأوساخ. بعد جادتها الأولى، ومقهى أكرم، والمكتبة ومحلات الملابس الأنيقة، هدير يعلو وزرقة متماوجة بالبياض، من فتحة لشارع صغير، كما منظار، تطل على المشهد: مطل البحر ما يجانبني وما تركت أيضا خلفي، في الزاوية فرع مصرف الوحدة شارة البؤس واللطخة السوداء. هذه اللوحة في شمالي وقد قصدت ميدان الحوت، و«الصبارص والليم القارص».