كراغلة، البدو، وسكان البلاد

كراغلة، البدو، وسكان البلاد

منذ وصول الأتراك إلى ليبيا عام 1551 لم يعد لسكان طرابلس أي دور في اختيار من يحكمهم، وأصبحت الكلمة العليا للانكشاريين والقراصنة مثلما هي عليه الآن، بينما استغرق الكوراوغلية منذ ذلك الحين وإلى 1711 ليصلوا إلى السلطة، أي 160 سنة، فإذا اعتبرنا أن الجيل الواحد يمثل 25 سنة فقد استغرق الكوراوغلية ستة أجيال ونصف ليحكموا طرابلس، وكلمة كوراوغلية تعني الذرية من أب تركي وأم ليبية، وتحرفت في اللهجة الليبية لتصبح «كراغلة» ومفردها كرغلي.

تبدأ هذه السلالة بانكشاري واحد يخطف من عائلته وهو طفل صغير، في أي مكان من الامبراطورية العثمانية أو على حدودها، وفي عهد السلطان مراد الأول حكم ما بين 1360م و1389 تشكلت أول كتيبة من هؤلاء الأطفال، الذين تربوا تربية عسكرية صارمة، ولا يعرفون عائلاتهم ولذلك يعتبرون السلطان والدهم، وكلمة الانكشارية جاءت من الكلمة التركية «يكيجيري» أي الجنود الجدد، كان على هؤلاء أن يبدأوا في تأسيس أول عائلة ينتمون إليها في أي مكان في الامبراطورية، بالزواج من بنات العائلات المحلية، وفي ليبيا عن طريق هذا الزواج انتقلوا من فئة الانكشاريين إلى فئة الكوراوغلية، أي تعلم لغة أهل البلد وإقامة تحالفات معهم والتطبع بعاداتهم وتقاليدهم.

في زمن درغوت باشا وصل نوتي قرصان من قرية قرمان في تركيا، وتمكن بسهولة من الحصول على قطعة أرض في المنشية، جعلته يقرر الاستقرار قرب هذه المدينة، وتوج هذا الاستقرار بالزواج من أسرة عربية، وبعد أكثر من مئة وستين عاماً تمكن أحد أحفاده أحمد القرهمانلي من الوصول إلى رتبة قائد فرسان الساحل والمنشية، بفضل زواجه من ابنة قائد الجيش محمد ولد الجن، الذي ينقلب على صهره إبراهيم الأركلي عام 1710، إلا أن الانكشاريين الأتراك رفضوا بيعته لأنه كوراوغلي، أي أن أمه ليبية ووالده تركي، بينما بايعه سكان المدينة من العرب والأمازيغ، وبسبب معارضة الانكشاريين عين إسماعيل خوجة حاكماً صورياً جديداً للبلاد، وتفرغ للفتك بالانكشاريين واستبدالهم بالكوراوغلية في الجيش والدولة، وبعد شهرين نجح قائد الجند محمود بوميس من أصول عربية من الانقلاب على ولد الجن وقتله، وعندها خشى أحمد القرهمانلي من اغتياله، فبقي بين جنوده في المنشية وتحاشى الدخول إلى المدينة، ولكن بوميس لم يتركه في حاله فكلفه بنقل رسالة إلى شيوخ قبائل غريان.

في الطريق فتح القرهمانلي الرسالة المختومة بالشمع الأحمر، فوجد توصية لشيوخ غريان بتصفية حامل الرسالة، فكتب القرهمانلي رسالة أخرى توصيه باصطحاب شيوخ غريان إلى طرابلس لمبايعة بوميس وتصفيتهم في الطريق، وعندها غضب شيوخ غريان وقرروا الزحف على طرابلس وتنصيب القرهمانلي حاكماً جديداً، وهكذا تمكن الكوراوغلية أو كما نسميهم اليوم الكراغلة من الوصول إلى السلطة، وتأسيس دولة مستقلة تتبع السلطان العثماني شكلياً لمدة 125 سنة، كان أحمد القرهمانلي يسخر من بوميس ويلقبه بـ«البلدي» أي ولد البلاد، ويقول عنه أنه لا يجيد ركوب الخيل، وفقا للحوليات الليبية لشارل فيرو، وبالتالي يمكننا تقسيم الفئات المتصارعة على السلطة في مطلع القرن الثامن عشر إلى ثلاث فئات.

الانكشاريون الذين احتكروا السلطة بعد طرد فرسان القديس يوحنا عام 1551، والكوراوغلية الذين وصلوا بعد هذا التاريخ وتزوجوا من ليبيات، وأهل البلد سواء كانوا عربا أو أمازيغ، وهم الفئة الأكثر ضعفاً ولهذا كان عليهم التحالف مع أصهارهم الجدد من الكوراوغلية، فهؤلاء ما كانت لهم القدرة على الوصول إلى السلطة في طرابلس، لولا دعم قبائل غريان وقبائل الجبل، بالإضافة إلى أصهارهم في المنشية والساحل، أما البدو فلا يزالون بعيدين عن المدينة ولم يفكروا بعد في الوصول إلى السلطة، ولكن ستصبح عندهم حظوة لدى القرهمانليين عندما يعفون من دفع الضرائب، مقابل خروجهم مع الجيش لجمع ضريبة العشر من جميع القبائل الأخرى، ولكن ليس جميع البدو وإنما فقط المحاميد وأولاد سليمان، ولهذا يجب أن لا ننظر إلى غومة المحمودي كما يحاول المؤرخون الوطنيون والقوميون تصويره، على أنه ثائر ضد الحكم التركي باعتباره عربياً حراً، هو فقط كان يحتج على دفع الضرائب التي فرضها العهد العثماني الثاني من عام 1835، ونفس الشيء حدث مع عبد الجليل سيف النصر فلو أعفى الأتراك هؤلاء من دفع الضرائب كما كانوا في عهد القرهمانليين لما خرجوا على الحكم التركي واستمروا في تقديم خدماتهم، فقد كان ابن نوير والد غومة عندما يزور الباشا في السرايا الحمراء تحييه عدة طلقات مدفعية من فوق القلعة، ويعود محملاً بالهدايا والأموال ليوزعها على قبيلته. علينا أن نسرد التاريخ كما حدث بالضبط، حتى يمكننا السيطرة على اللحظة الراهنة وفهمها.

في العهد العثماني الثاني تراجعت مكانة الكوراوغلية، لكنهم ظلوا قريبين من السلطة كوزراء وسفراء وكبار ضباط وحكام أقاليم، في منافسة حادة مع أهل البلد، فعندما غزت إيطاليا ليبيا كانت معظم المناطق في غرب ليبيا تخضع لسيطرة الكوراوغلية، فمصراتة كان يحكمها رمضان السويحلي الكورغلي، بعد أن انتزع القيادة من عائلة المنتصر التي تنتمي للأهالي، وكان قائم مقام غريان الهادي كعبار الكرغلي، وفرحات الزاوي الكورغلي يحكم الزاوية، وأحمد المريض في ترهونة، بينما بقيت المناطق البدوية تحت حكم زعمائها التقليديين. عبد النبي بلخير في ورفلة، وعائلة فكيني في الرجبان، وعائلة الناكوع في الزنتان، ومحمد بن عبد الله في أولاد بوسيف، وأولاد سليمان يسيطرون على المنطقة الوسطى وفزان، والمناطق الأمازيغية تحت سيطرة الباروني وبن عسكر وبن شعبان، أما شرق ليبيا فقد خضع بالكامل للحركة السنوسية باستثناء بنغازي التي كانت تحت سيطرة عائلة الكيخيا الكورغلية، ودرنة التي كانت تحت سيطرة عائلات من غرب البلاد وعائلات قدمت من الأندلس.

بعد الاستقلال تعامل الملك إدريس ببرغماتية مع الوضع الذي وجده أمامه، فعين محمود المنتصر من مصراتة أول رئيس حكومة بعد الاستقلال، ولكنه تحاشى عائلة السويحلي، الذي حارب قوات صفي الدين السنوسي في أجدابيا، وطردها من بني وليد كما طرد بنقطنش الذي عينه الطليان مكان عبد النبي بلخير، وفي بنغازي عين عمر باشا الكيخا أول رئيس وزراء في حكومة برقة على الرغم من أن الود كان مفقودا بين السنوسيين وآل الكيخيا، ثم عين مصطفى بن حليم رئيساً للحكومة وهو من أصول مصراتية ولكنه محسوب على درنة، وتقريباً جميع أبناء زعماء المناطق والقبائل عينوا في مناصب رفيعة. فكيني وكعبار والمريض وبلخير والقعود والأطيوش والبدري ومازق والصيد وعون سوف وغيرهم، أي خلطة من الكورغلية والأهالي والبدو، ولكن البدو مثل الانكشاريين استغلوا الجيش للانفراد بالسلطة في انقلاب القذافي.

القذافي تعامل مع هذه الخلطة العجيبة ببرغماتية أيضا، ولكنها برغماتية سلبية على عكس برغماتية الملك إدريس الذي تمكن من خلالها من تأسيس الحدود الدنيا للدولة، فقد رفع القذافي شعار «خوت الجد» والقومية العربية في نفس الوقت، وتحاشى التعامل مع مصراتة سواء كانوا من الأهالي أو من الأصول التركية والشركسية، منذ المحاولة الانقلابية لعمر المحيشي الشركسي عام 1975، ولكن عن طريق حلفائه في مصراتة تعرف على بدو مصراتة الذين كانوا على الهامش فقربهم ومنهم عائلات كونت ثروة كبيرة في عهد القذافي وتمكنت من خلال هذه الأموال من إيصال أحد أبنائها إلى السلطة بعد ثورة فبراير، وعلى الرغم من محاولة العقيد مفتاح قروم الانقلابية عام 1993، إلا أن القذافي لم يقطع علاقاته مع ورفلة، بل حاول استثمار العداوة التقليدية بينهم وبين مصراتة، أما القبائل البدوية في غرب البلاد فقد حولها إلى جحافل.

بعد أكثر من مئة عام على غزو إيطاليا لليبيا لا يبدو أن الصورة تغيرت كثيرا، باستثناء ظهور تيارات الإسلام السياسي مثل الإخوان والسلفيين والجهاديين، وضمور التيار القومي العروبي واليساري، أما الباقي فنفس القوى القديمة ما زالت تتصارع على السلطة. الكورغلية والبدو وأهل البلد أكثر من كل هذه الأحزاب، ففي عام 2014 عندما سيطرت قوات فجر ليبيا على طرابلس، كانت الزنتان تحتل مطار طرابلس وعدة مواقع أخرى، والقوات التي هاجمت طرابلس ثمثل كراغلة مصراتة أي من أصول تركية وشركسية، السويحلي وصلاح بادي وبالفعل تمكنوا من السيطرة على المدينة، وفرض قانون العزل السياسي، وخطف ثم إجبار رئيس الحكومة علي زيدان على مغادرة البلاد، ولكن بعد مذبحة غرغور، وسيطرة تنظيم داعش على سرت اضطروا إلى الانسحاب من طرابلس، ثم انسحبت القوة الثالثة من فزان، وانسحب السويحلي من رئاسة المؤتمر الوطني لصالح الإخوان، وفي ظل اضطراب الأمن في العاصمة التي تعج بالميليشيات مثلما كانت تعج بالانكشاريين، تمكن اثنان من زعماء هذه الميليشيات من السيطرة على مناطق واسعة، وهما عبدالرؤوف كارة، وعبدالغني الككلي، كارة ابن فشلوم وسوق الجمعة وشرق العاصمة، والككلي على الرغم من لقبه الذي يشير إلى بلدة ككلة في الجبل الغربي، إلا أنه لا يعرف إلا حي بوسليم، وأخيرا اضطر ابن المدينة القديمة فائز السراج الكرغلي للاعتراف بهذه الميليشيات كتنظيمات شرعية، واخترع لها مسميات وخصص لهما موازنات، ومقابل ذلك تمكنوا من حفظ الأمن في مناطقهم.

نفس المعادلة بين الحكام الأتراك لطرابلس والانكشاريين، ولكن لم يتوقع أحد أن يصل بدو مصراتة غير المحسوبين على الكراغلة الأتراك والشركس ولا على الأهالي إلى السلطة، وبعد الأزمة التي انفجرت في طرابلس بعد مقتل الككلي، اتضح أن مصراتة كلها لا تدعم الدبيبة، وإنما الدعم يأتي من أعداء الأمس وتحديدا الزنتان، في شخص عماد الطرابلسي ومليقطة، بينما بقية الزنتان تراهن إما على سيف الإسلام القذافي أو على حفتر، وطبعا لا أستبعد الأطراف الخارجية التي شجعت الدبيبة على استهداف كارة والككلي. كيف ستنتهي هذه المعركة؟ من الصعب التنبؤ ولكن سيصل إما البدوي أو الكرغلي مرة أخرى فولد البلاد ما زال مستبعدا، ليس فقط في طرابلس وإنما أيضا في بنغازي ودرنة، ولأننا لم نقرأ تاريخنا بطريقة صحيحة لا نزال نرتكب نفس الأخطاء، ولم نستطع بناء الدولة المدنية بمؤسساتها الحقيقية، ولا يزال اللصوص من كل الفئات السابقة ينهبون البلاد كلها، مثلما كان البدو ينهبون طرابلس إذا شعر حاكمها بخطر خارجي قادم من البحر، والجديد في الأمر أن الجميع أصبح يستوطن طرابلس. الكوراغلية والريفيون والبدو وتغيرت كلمة أولاد البلد من سكان المدينة القديمة الصغيرة لتشمل كل هؤلاء.