الفن والإلهام: تجارب بيت علي قانة في ليبيا التي تعاني من النزاعات

«بعثته الفنانة هادية قانة من جديد، ليصبح المركز ملاذًا ثقافيًا نابضًا بالحياة، وشاهدًا حيًّا على أن الفن يمكن أن يكون في آنٍ واحد ملجأً آمنًا وقوة ثورية قادرة على التغيير».. هذا ما جاء فى تقرير بقلم الصحفي الليبي حسين الديب، نُشر فى «تي آر تي العالمية» أو «القسم العالمي لشبكة تي آر تي التركية» (TRT Global)، حيث كتب عن الفنانة هادية قانة، وتحدث فيه عن تجربتها، وإعادتها الحياة لـ«بيت على قانة» فى مدينة طرابلس، ليخرج كمنارة للفن والثقافة.
وقال الديب في تقريره: «تحت شمس الصحراء الليبية، تقف امرأة بشعر مزيج من الرمادي والأسود، ونظارات حمراء بإطار مميز، أمام لافتة بسيطة، لكنها لافتة للانتباه «مقهى سعيد»، مكتوبة باللغتين العربية والإنجليزية».
تلك المرأة هي هادية قانة، فنانة وخزّافة، والمحرك الرئيسي وراء أحد القلائل من الملاذات الثقافية في ليبيا «بيت علي قانة».
في بلد كثيرًا ما عُرِّف بالصراع أكثر من الإبداع، نجحت هادية في شقّ طريقٍ للفن كي يبقى، بل ويزدهر. لم تفعل ذلك فقط وفاءً لإرث والدها، بل كفعل مقاومة في وطن يحاول إعادة تعريف نفسه.
-هادية قانة:«بيت على قانة الثقافي» لن يطلب الدعم الحكومي
-شراكة فنية خلال رمضان المقبل بين مصلي وهادية قانة
يضم بيت علي قانة، بحلته الحالية، مقهى صغيرًا، وقاعات عرض، ومكتبة متواضعة. أما الفيلا نفسها، التي تقع في أحياء طرابلس القديمة، فتحمل آثار الحرب. فعلى بوابتها تتدلّى لافتة طريق مخترقة بالرصاص، وفي الحديقة استُخدمت قذائف الهاون كأحواض للزرع.
استغرق تحويل الفيلا، التي شيّدها والدها، إلى هذا الملاذ الثقافي أكثر من عقد من الزمان، وجهد متواصل من هادية ومتطوعين كُثر.
عند دخول بيت علي قانة، الذي افتُتح هذا العام، تستقبل الزوار حديقة خضراء تؤدي إلى معرض دائم، يضم لوحات ومنحوتات ورسوما لعلي قانة، بينما تُخصص غرف أخرى لمعارض موقتة وورش عمل وندوات ثقافية.
من أبرز ملامح المشروع حاوية شحن معدّلة، خُصصت لإقامة الفنانين، ومصممة لتكون مساحة عمل للقيّمين والمتخصصين في علوم المتاحف، وهي مجالات تعاني نقصا حادا في ليبيا، وفقاً لهادية.
واحة ثقافية في وطن ممزق
في مطلع الألفية، لم تكن هادية تتصور أبدًا أن منزل عائلتها سيتحول إلى متحف. ولكن بعد وفاة والدها، علي قانة، في عام 2006، تغيّر كل شيء. لم تمثّل وفاته فقدان رمز ثقافي فحسب، بل شكلت أيضًا خسارة شخصية عميقة، أعادت توجيه مسار حياتها.
لقد تجاوز تأثير علي قانة حدود أعماله الفنية؛ إذ كان معلمًا لفنانين آخرين، وأسهم في مشاريع فنية وطنية، وكان من أوائل من أسسوا لحداثة الفن الليبي.
لكن رحيله لم يُقابل بما يستحق من تقدير، إذ تتذكر هادية كيف وصفه أحد العاملين بالمستشفى بعد وفاته، قائلاً: «فقط رجل مسن مات»، وقد صدمها ذلك التعليق بشدة، حيث تقول: «لقد آلمني ذلك. لم أستطع أن أدعه يكون نهاية قصته».
لم يكن الأمر مجرد حزن ابنة على والدها، بل كان مقاومة ضد ذاكرة ثقافية جماعية مهددة بمحو إرث والدها الفني.
ومع اندلاع الثورة عام 2011، زادت مخاوف هادية من أن تدمّر الحرب المنزل، وما يحتويه من كنوز فنية. بدأت حينها في رقمنة وأرشفة أوراق وأبحاث وأعمال والدها الفنية كأنها تُمارس نوعًا من المقاومة الصامتة ضد الدمار المحيط بها.
لحظة محورية جاءت حين تدخلت صديقة لها من هولندا، بينما كانت هادية تفكر في بيع قطعة أرض لتمويل المشروع. نصحتها قائلة: «لا تبيعي أرضك.. دعي الليبيين يدعمونك»، فهذه الكلمات غيّرت نظرتها بالكامل.
وبعزيمة متجددة، شرعت هادية في بناء الجدران، وتركيب الإضاءة، وطلبت المساعدة من العائلة والأصدقاء. شيئًا فشيئًا، بدأ المنزل يتحول، بعدما أسهم الجيران وفنانون محليون في إحياء بيت علي قانة.
تقول هادية: «بُني هذا المكان قطعةً قطعة. كانت هناك أيام شعرت خلالها بأنني على وشك الانهيار. البلاد كانت في حالة فوضى، وكنت أتساءل: هل سيرى هذا المكان النور يومًا؟ لكنني واصلت، لأنني كنت أؤمن بالرؤية».
بالنسبة لها، لا يمثل بيت علي قانة مجرد متحف، بل هو مساحة للفن والحياة وسط أمة تبحث عن هويتها بعد الثورة.
اليوم، لا يقتصر «بيت علي قانة» على حماية إرث فنيّ عائلي، بل يتقدّم خطوةً أبعد ليقدّم مساحة تعليم وتبادل وإنتاج، تُمكّن الفنانين والباحثين والمهتمين من العمل والتعلّم، وتدفع بالحياة الثقافية قدمًا في مدينةٍ تبحث عن توازنها بعد سنوات من الاضطراب.