الذباب: الحشرات الطائرة المزعجة

الذباب: الحشرات الطائرة المزعجة

الأخذ بالثأر أو استيفاء الحق بالذات وتحقيق العدالة، من القيم التي ظلت تحظى بالتبجيل والتمجيد في الإرث الإنساني، فقد ظل الأخذ بالثأر من الأعمال البطولية التي ظل المظلومون والمضطهدون يمجدونها ويسعون لتحقيقها ويغرسونها في وجدانات وعقول أبنائهم.

إن «هامات» الضحايا ظلت تسكن أرواح وخيالات خلفائهم، تقض مضاجعهم وتمنعهم من النوم والسكوت على الثأر، بل إن الصراع مع تلك الهامات والأرواح كان دائما المظهر الأهم مع قدر تلك الشخصيات، والتجلي الأهم لبطولتها ولمصيرها المأساوي. إن المنتقم يتحول في تلك القصص والملاحم إلى سيف العدالة القاسي، ليصير فعله العادل، كأس السم القاتل الذي عليه أن يتجرعه من أجل إحقاق الحق وإنجاز العدل.

«يالثارات كليب» صرخة طلب الثأر والتحريض عليه، كانت أحد مظاهر هذه الثقافة الرعوية في إرثنا، وهيمنت قيمها منذ الجاهلية وحتى اليوم على وجداننا وعقلنا المشوش والمضطرب، ورسمت وخططت وسلحت أجيالنا بكل محفزات ومبررات تلك الثأرات المتناسلة، التي تنجز لتخرج منها ثأرات جديدة في سلاسل متواصلة من القتل والثأر وهكذا إلى ما لا نهاية.

وسط صحراء بلقع، وتحت شمس حارقة، تتكدس جثت القتلى في قلب تلك البقعة ويتناثر بعضها أبعد وحتى أطراف ونهايات تلك الجغرافيا، حقول من الموت، أنهار من الثأرات، تسعى وسطها الكلاب والضباع والنسور والغربان، وتحلق في سمائها المغبرة هامات الموتى مطالبة بالثأر ومزيد الدماء والأرواح.

هذا المشهد الكارثي، ليس إلا مشهدا ختاميا لانتحار أمة بسيوفها وقبائلها، مشهد من ثقافة رعوية ولدتها صحراء العطش والموت، وأبقتها حية تسعى في حواضرنا نفس تلك الثقافة وتلك اليقينيات القاتلة، فها هي «درون» وكذبابة مقبرة تزن بسماء إحد حواضرنا الليبية ناقلة ولشاشات التلفزيون جثت القتلى الملقاة على أسفلت أزقة وشوارع وفي مكبات زبالتنا، وكل ذلك وسط ركام بيوت دمرتها ثاراتنا، وسط خرائب تسعى بها ضباع وكلاب مصفحة، تحلق في سمائها نسور من حديد وذباب «درونات».

في مسرحية الذباب للفرنسي «سارتر» يعود «أورست» من منفاه للأخذ بثأر الملك أبيه من مغتصب عرش والده وامه الخائنة، ليجد مدينته وقد أصابها الطاعون وتتناثر جثت أهلها في الشوارع والأزقة وتغص أرضها وسماؤها بأسراب الذباب الذي يصم الآذان طنينه وتحجب أسرابه الرؤيا، ينجز الثأر ويقتل مغتصب العرش ويقتل أمه أيضا ثأرا لأبيه، كل تلك المنجزات التي حققها لا تكون نهاية سعيدة لمنجزه، فأخذ الثأر لم يورثه الملك بل أورثه لعنة ما كان من طاعون وذباب، فيهرب من المدينة مهانا تطارده أسراب الذباب، ليعود للمنفى مطاردا وملعونا، ومطلوبا للثأر.

إن الطاعون يسكن أزقتنا والضباع والكلاب تتجول عبر شوارعنا وتحلق النسور والدرونات في سمائنا، ويطن الذباب حاجبا البصر والبصيرة، وتعلو أصوات ببغاواتنا «يالثارات كليب من كليب».

ضحايا ثاراتنا، التي تحتل مقابرها أسراب الذباب ناهشة هاماتها المطالبة، ليس بالثأر من الثأر وإنما بإيقاف المهزلة الرعوية السوداء، وإسكات طنين هذا الذباب، علنا نأخذ حق الحياة من قطعان الموت وذبابه.