زياد: العبقري المتواضع!

تفرّد لبنان برموزه الثقافية، الأدبية والفنيّة، وبالصناعة الإعلامية، وهو الذي أسّس لسوق المعرفة في البلاد العربية من خلال صحافته الأولى ومطابعه ومحطاته التلفزيونية والإذاعية واستوديوهات إنتاجه الفني، ما جعله يتصدر المشهد الإعلامي والثقافي العربي لعقود، وإلى وقتنا هذا، رغم ما تعرض له من حروب تدميرية، ومن انتكاسات سياسية مؤسفة وانهيارات اقتصادية مؤلمة، لكن ظلت الثقافة والتفاعل مع كُل الفنون علامة تميُّز في حياة اللبنانيين، وشعار وجود!
لم يكن «زياد الرحباني» ابناً لعائلة فنية أصيلة وحسب؛ بل كان ابناً لشعبٍ كامل أصيل، عشق الحياة رغم معاناته وتراكم أوجاعه، وهو الشعب المستعد دائماً لدخول المسرح جائعاً في مقابل أن يخرج منه قوياً ومانعاً لرداءة السُّلطة والمشهد السياسي.. ومع تجربة «زياد الرحباني» المسرحية، وعددٍ من المسرحيين التنويريين، كان المسرح في بيروت هو برلمان الناس الذي يقرّرون فيه وجودهم الحقيقي ضد سياسات الحكومة المحكومة بقرارات الوصاية الخارجية وبالشطحات الطائفية المارقة وعنتريات الزعامات على حساب الكل اللبناني، وكان «زياد» لا يرى لبنان طائفياً، كما لم تره السيدة فيروز يوماً، ولا الأخوان رحباني.. فالوطن في كلمات زياد كان يعني الذات اللبنانية التي تتقاسم الوجع والفرح معاً تحت سماء واحدة إذا أمطرت بغزارة احتمى كل اللبنانيين ببعضهم، ولعلّ اجتياح إسرائيل لبيروت في العام 1982 كان شاهداً على هذه الحقيقة التاريخية.
تكمن عبقرية «زياد» في بساطته الشخصية وشاعريته وهدوئه الساكن في التأمُّلات، وفي مزاجيته العالية التي يرتكبها بعفوية فتجعل من الآخر يرتبك لها ويعيد ترتيب السؤال من جديد، فللوهلة الأولى في الحديث معه تراه غير مكترثٍ لسؤالك ولا بك شخصياً وهو ينظر إليك بعينيْن سارحتيْن وكأنه غائب عنك وليس معك، حتى إنّك لا تعرف حينها ماذا ستضيف وقد أهملك في متاهة، وفجأة يعطيك الإجابة العميقة فتكتشف أن الرجل لم يكن فقط يستمع إليك وينظر في عينيْك بلا مبالاه، بل كان يغوص فيك ليراك بطريقته، وكان في الأساس حاضراً معك أكثر مما تتصور، ومهما كانت كلماته كبيرة وخطيرة، إلا أنه يسوقها إليك كنمنمات، هادئة رغم حدتها، وموجعة بألم العبارات، وكأنه يختزل ما بعقله من مخزون المواجع!
التقيتُ زياد الرحباني مرة واحدة فقط في بيروت صيف عام 1993 صحبة الصديقيْن، الشاعر والكاتب حسين نصر الله والفنّان التشكيلي محمد شمس الدين، وكنتُ في حواراتي الجانبية معه أجتهد لسماع كلماته وفهمها للاقتراب منه أكثر، وبمجاملته لي في الحديث والمزاح كنتُ أعوّل على لقائه مجدداً في مكان آخر هادئ لا يقاطعنا فيه شمس الدين بعربداته الليلية، ولا تخلص فيه عُلب سجائرنا في عتمة المكان.. في تلك الليلة حاولتُ أن أكتب من ذاكرتي ما يشبه الحوار مع زياد، لكنّي عجزتُ في استعادة رؤاه والبناء عليها، ولم يعُد يحضر في ذهني سوى صوته الذي يأتي ويغيب، وحركة أصابعه على قطيفة الطاولة الحمراء!
كتب زياد ولحّن أعمالاً رائعة لفيروز، وبعض هذه الأعمال الرائعة كنا ظنناها لوقت من ألحان والده عاصي، مثل «سألوني الناس» و«البوسطة» و«عودك رنّان» و«أنا عندي حنين»، إلى «كيفك انت» من كلماته وألحانه.. إلا أن هذه الأعمال الرائعة، لم تحرمنا من الاستمتاع ومحبتنا الفائقة له وإعجابنا الشديد بأعماله الخاصّة، السياسية والاجتماعية النقدية الساخرة، الغنائية والمسرحية والإذاعية، التي قدّمها على التوالي خلال عهود سياسية مختلفة منذ مطلع السبعينيات، وتأثرت بها النخبة والشارع اللبناني، وهي الأعمال التي كرست زياد الرحباني كمثقف يساري معارض بفنه الناقد للسلطة والساخر من بؤس الشارع والحياة في لبنان، فلم تكن تلك الأعمال مجرد لوحات فنية ومونولوجات تحاكي الواقع السياسي والاجتماعي اللبناني وحسب، وإنما كانت أعمالاً فلسفية لإعمال العقل وقدرته على صياغة نقده اللاذع للسائد الظاهر والغميق في المجتمع وفي النظام السياسي بكل تفاصيله، بعبقرية الكلمة المستوحاة من الدارجة اللبنانية بمفرداتها الشعبية الساخطة والمتهكمة التي عادة ما نهملها على رصيف خُطانا في الحياة ولا نعير تكرارها اهتماماً، ووجدها زياد مخزوناً للتداول، ومتناً أساسياً لقول ما لا يُقال لحناً ومسرحاً، وهي اللغة الصادمة رغم بساطتها لتعيش في المكان الذي خرجت منه حافية بين الناس، الناس التي أبدعت الحكاية الكاملة، وتأثرت بها.
كانت لنا في حياتنا العربية باقة يسارية من أجمل الأعمال الثورية التي قدّمها مناضلون شعبيون في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، مثل الشيخ إمام ومارسيل خليفة وخالد الهبر وأحمد قعبور وسميح شقير، لكنّنا مع «كاسيتات» زياد الرحباني كان الأمر يختلف، فهو يأخذ من أعماقنا ما نشتهي أن نسمعه بصوته الساخر، فيترك فينا تلك العبارات البسيطة في قالبها الموسيقي الإيقاعي الآسر، فعليك بعدها أن تظل حيّاً تدندن بها أمام العبث السياسي والعدم القيمي، وتردّد معه: «بما أنّو» و«شو هالأيام» و«صارت معي» و«بلا بلا شي»، ونشيده الغاضب «مش راح نسكت» ومونولوجه السياسي اللاذع «هيدا مش شعب هيدا زريبة».. ومن خلال مسرحياته الغنائية الناقدة مثل «بالنسبة لبكرا شو» و«فيلم أميركي طويل» و«شي فاشل».. وهي العبقريات الدالة على عُمق سؤاله الوجودي وقيمة سخطه السياسي ونقده الاجتماعي، فكان العبقري البسيط الذي عاش حياة البسطاء وسخّر موهبته في زعزعة الراكد الوجداني في حياة اللبنانيين، ليبقى في الضمير الثقافي اللبناني والعربي الظاهرة الموسيقية والمسرحية الفذّة التي لن تتكرّر في حياة أحد من سلالة عائلة فنية أسطورية مثل الرحاب