تحياتي لك، أيتها الأوقات

استعرتُ العنوان أعلاه من اسم كتاب للكاتب المصري المرحوم صلاح عيسى، جمع فيه مقالات سبق له نشرها في عديد من الصحف المصرية والعربية في الثمانينيات من القرن الماضي، انتهيت من قراءته للمرة الثالثة خلال الأيام الماضية.
وحين فكرت في كتابة عرض لرواية صديقي الشاعر عاشور الطويبي لم أجد أفضل من عنوانه ليكون عنواناً لها، لوجود عامل مشترك بين الإثنين: المرحوم صلاح عيسى، من خلال المقالات المنشورة في الكتاب، يَرثي زمناً مضى لا ليبكي ويندب بل ليوقظ ويحرّك مشاعر حب الوطن وينبّه إلى ما يحيق به من مخاطر. والشاعر الروائي عاشور الطويبي في روايته المعنونة (دكان الميلودي) يرثي روائياً زمناً تلاشى، لا ليبكي ويندب، ولكن ليذكّر وينبّه إلى ما أضعنا من قيم.
المراثي فنٌّ أدبي قديم يحتلّ مكانة مرموقة في الأدب العربي شعراً ونثراً. المراثي تعددت وتنوعت، من رثاء أحبّة وإخوة وبنين وأصدقاء إلى رثاء أمم ودول. فنّ الرثاء والمراثي ليس حكراً على العرب، بل فن معروف بجذور ضاربة في القدم لدى الأمم والشعوب الأخرى. في أغلب الصحف البريطانية الكبرى هناك صفحة يومية للمراثي تحظى بالاهتمام. وأحرص شخصياً على الاهتمام بمتابعة ما ينشر فيها من «مراثي» لمن يغادر عالمنا من شخصيات سياسية أو أدبية أو علمية…إلخ في صحف مختلفة.
القاص والروائي والكاتب الصحفي البديع المرحوم أحمد إبراهيم الفقيه ابتدع فناً قصصياً غير مسبوق، بكتابة «مراثي» أصدرها في كتاب بعنوان (قصص من عالم العرفان) على شكل قصص قصيرة، كتبها عن كُتّاب وفنانين ورسامين وممثلين ليبيين توفاهم الله، متخيلاً انتقالهم إلى الدار الآخرة، وواصفاً استقبالهم ممن سبقوهم إليها، واستئنافهم لما كانوا يقدمون من إبداع في الدنيا.
في روايته المعنونة (دكان الميلودي) يقدم عاشور الطويبي رواية / مرثية لزمن مضى، وكأنه أراد من خلال أحداثها وشخصياتها تذكيرنا بما افتقدنا، خصوصاً نحن الذين تقاسمنا معه العيش في ذلك الزمن، ونتقاسم معه كذلك العيش في هذا الزمن، ولا نتوقف عن المقارنة بين الزمنين. أغلب الوقت بتحسّر.
(دكان الميلودي) تعدُّ في رأيي مغامرة روائية لافتة في منظومة الرواية الليبية، كونها كتبت باللهجة المحكية – الدارجة. مغامرة عاشور الطويبي الروائية قد تكون من دون سوابق ليبية، لكنها- حسب علمي- ليست الأولى من نوعها عربياً. سبقه إليها في تونس كُتّاب عديدون. آخرهم روائي اسمه توفيق بن بريّك، بنشره رواية تحت عنوان «كلب بن كلب» كتبت من أولها إلى آخرها باللهجة التونسية. بن بريّك كتب على الغلاف (حْكاية) وليس رواية. وأعترف أنني اضطررت إلى قراءتها أكثر من مرة لحلّ ما استغلق علىَّ فهمه من اللهجة التونسية.
«دكان الميلودي» دكان عادي، في منطقة من مناطق طرابلس لا يختلف عن أي دكان في أي منطقة أو جهة أخرى في طرابلس أو خارجها. دكاكين الليبيين قديماً، قبل ظهور السوبرماركات والمولات التجارية والبوتيكات، تتشابه في سلعها وبضائعها، وكذلك مساحاتها. وفي العادة لا تزيد المساحة عن «مرقد كلب وفتالته برّه». ولذلك السبب، كانوا يبنون خارجها، ما صار يعرف باسم الرُكابه لتكون ملتقى لرجال الحي، يجلسون فوقها ويتبادلون الأحاديث ويحتسون كؤوس الشاهي.
الميلودي صاحب الدكان هو ما يميز الدكان. وهو من يجمع الناس حوله، وهو شخص يختلف بسمو أخلاقه وكرمه عما عرفنا من أصحاب دكاكين. منه ينطلق نهر السرد وإليه يعود، يسري دافقاً سلساً عذباً، مدعوماً بروافد عديدة تحمل أسماء شخصيات أخرى مثل المصروب وخليل الدحّاي والحداد وغيرهم.
يرسم عاشور الطويبي، بحب، لوحة كبيرة، بألوان الرفقة والجيرة الدافئتين، وكأنه بذلك يسترجع ويوثّق ذلك الزمن ويرثيه في آن معاً. زمن رغم بؤسه وفقره كان، بالنسبة لمن عاشوه، ثريّاً بزخم عواطفه ودفق مشاعره وإنسانيته.
الأسلوب يقول الفرنسيون هو الرجل. اللهجة المحكية، وخاصة في الحوارات تتحول في أسلوب عاشور الطويبي إلى كائن حيوي مثير للدهشة. الدهشة تنبع من قدرته على تطويع اللهجة لتتحول إلى جسر قادر على توصيل عالم الميلودي، بحمولته التاريخية من ضفة زمنية بعيدة نسبياً الى وقتنا هذا.
ما أوردته أعلاه ليس تسليماً بأن رواية عاشور الطويبي في متناول فهم القارئ غير الليبي. اللهجة الليبية المحكية ليست في انتشار اللهجة المحكية المصرية مثلاً، وبالتالي صعبة الفهم على غير متحدثيها. وهذه معضلة بلا شك تستدعي التوقف عندها، كونها، من دون شك، تحول بين الرواية والانتشار، ليس فقط عربياً بل حتى ليبياً، لأنها تغرف بمغرف كبير من قِدر لهجة طرابلسية بمفردات لم تعد مستعملة كثيراً، ليس من السهل على غير المهتم والمختص استيعاب دلالاتها وإيحاءاتها. لكنها مغامرة روائية متميزة لافتة للانتباه، تشكل إضافة في سجل الرواية الليبية، وجديرة بالاهتمام نقدياً.