التسلسل الزمني للدفعة السابعة: التكبالي والقذافي.. علاقة معقدة (5)

(أنا أمير حلب اليتيم
مهاجر في داخل المدينة
من شارع لبيت..
على جواد الموت)
البياتي
ثم هكذا.. عبر الأيام سيتقاطع اسم الضابط محمد فرج التومي مع اسم ضابط الصف محمد إبراهيم التومي. كان ضمن أفراد سلاح الهندسة في معسكر قاريونس غرب بنغازي. ظل يحمل وعيا وطنيا كبيرا. يواصل دراسته الليلية في ثانوية بنغازي. كان أيضا منتميا لحركة القوميين العرب وملتزما بأطروحاتها وأفكارها. التومي الضابط ينتمي إلى البعث والتومي ضابط الصف ضمن صفوف الحكيم من القوميين.
تلك شعارات ونظريات الأعوام والمراحل التي خاضتها الأمة وأجادها خطأ أو صوابا مفكروها ومنظروها فوق الأرصفة وكراسي المقاهي ومدرجات الجامعات والنقابات وخلال حشود الشعب المتطلع إلى غدٍ مختلف عن هذا اليوم الذي يحيط بالأمة المكسورة من خليجها الثائر إلى محيطها الهادر. كانوا في ساعات الاستراحة من النضال يجدون فرصة في غرغرة الأرجيلة وفي مرات كثيرة تقودهم الخطى إلى المحاكم والسجون. الأفكار البعيدة تأتي من هناك وتصل إلى هنا حيث الفراغ الضارب أطنابه في المدن والقرى والمدارس والمعسكرات التي تقع على الحواف.
الكلية العسكرية في بنغازي كانت تستعين بضابط الصف التومي للمشاركة في إلقاء الدروس العملية المتصلة بتخصصه في الهندسة.. الألغام والموانع والجسور وما إليها من مهن الميدان. كان صاحب موهبة في التعليم الناجح في ذلك التخصص للطلبة والجنود.
في معسكر قاريونس عرف معمر القذافي بعد مرحلة الكلية. المخابرة تخصص معمر القذافي والهندسة تخصص التومي جمعهما ذلك المعسكر. لم يكن الموقع كبيرا. كان عبارة عن مبانٍ صغيرة قديمة بها مقرات إدارة مطار قاريونس الذي ورثه الأمريكان من الطليان حتى العام 1961. استلمه الجيش الليبي وصارت المباني التي تحيطها الأسلاك الشائكة مثابة لسلاح المخابرة.. الصنف والسرية ثم خصص جزء منه للهندسة العسكرية. ولاحقا سيختفي المطار الذي أضحى مهجورا ومكانا آمنا في بعض المرات للقاءات السكارى وتَرِد غدران مياهه في مواسم الخريف أسراب طيور القطا. سيصبح حيا سكنيا ثم ستشغل المدينة الجامعية أجزاء كبيرة من أراضيه. زمن المطار ولى ونمت مدينة أخرى فوق هضابه المرتفعة عن بنغازي.
التومي الذي سيتقاطع اسمه مع التومي الآخر صاحب الحراك السياسي والفكري في الكلية وصديق التكبالي.. سيبادر في اليوم الثامن من سبتمبر 1969 بعد أسبوع من حركة القذافي وعبر عشيته المشهورة قبل الغروب بمحاولة للمواجهة.. في يده قنبلة ويحمل غدارة. صدمة حدثت له نتيجة لما حدث منذ أسبوع مضى. يذرع بقامته الفارعة دروب الإذاعة في بنغازي ممسكا بما في يده بعد أن نزع عتلة الأمان. صيحات تغمر المبنى وتصاحب خطواته. يمضي نحو المكتب في الدور العلوي الذي كانت تدار منه العمليات ويلتقي فيه عناصر التغيير وهو في الأصل مكتب كبير المذيعين فرج الشريف.. الهتاف يعلو.. ويشتد في حالة عصبية ومتمردة ورافضة وحادة.. العبارات تخرج بقوة.. (الخونة.. اقتلوا الملازمين الخونة.. عقابها واحد….(كلمة نابية جدا) يمسك البلاد). ألقى بالقنبلة. انفجر جسمه وثمة رصاصات اخترقت الجسد الفارع من خارج الإذاعة. انهمرت من ضابط يقف عند السفارة البريطانية المقابلة. وعن قرب كان يشاهد ما يدور ويحدث. كان هناك بشير هوادي وعوض حمزة وطاهر ارحومة. وغيرهم من الجنود والعاملين. القذافي يومها كان في طرابلس. ومن الإذاعة وجه أول خطاب له. رقي إلى عقيد وعين قائدا عاما للقوات المسلحة فيما شكلت الحكومة الأولى برئاسة محمود المغربي. يوم تقاطعت فيه الأسماء وتواصلت خطوط الرماد والتمرد والرفض.
متلازمة التكبالي مع التومي مع التومي. أولى بوادر المواجهة التي ماتت. قتل التومي ضابط الصف وغاب. غابت معه أسطورة أو قصة أو حكايا في أطياف التاريخ لم تعرف تفاصيلها الكاملة التي ماتت معه. لم يعرف له قبر حتى الآن. مضى التومي مثلما مضى آخرون. وكان محمد التومي الضابط قد تحرك من معسكره في ترهونة نحو طرابلس مع زملائه في اليوم الأول من سبتمبر. تقاطعات وتفاصيل تنقطع في البداية أو المنتصف. الأسرار تختفي في سطور التاريخ. التكبالي لم ير ما جرى. لم يشارك. كان قد رحل بعد تخرجه بعام. لكن التمرد كان يحمله في الأساس مثل التومي الضابط ومثل التومي ضابط الصف الذي فجأته الصدمة وكان يعرف ما وراء العناوين من الكلية إلى معسكر قاريونس إلى محطة الإذاعة. خطوط التمرد غطاها الرماد الكثيف وذابت في صفحات الماضي. لم يتضح تمرد التكبالي سوى في القصص حتى وفاته ومن المؤكد كما أشرت أن ثمة ما يعتمل في صدره داخل الكلية ثم في معسكر الزاوية وعبر اللحظات الأخيرة قبل الرحيل على سرير العمليات بمستشفى العزيزية في طرابلس. سر مضى واختفى.
في الكلية تنفس التكبالي شعرا بدلا من القصص. نشر في صيف 1964 أثناء العطلة الدراسية قصيدة المويجات الولهى بمجلة الإذاعة. ثم انقطع ولم يواصل النشر. ظهرت أعماله القصصية بعد وفاته وفازت بجائزة أدبية من اللجنة العليا لرعاية الفنون والآداب. وجود التكبالي في الكلية ثم بعد تخرجه ضابطا في الجيش لم يملأ الفراغ النفسي الذي يفعم ذاته. هناك شيء مفقود لم يظهر. التكبالي القادم من بلاد اديناور وسلفه هتلر بعد أيام الرايخ الثالث كما كان. فراغ في النفس.. يمور ويتحرك.
هناك في ألمانيا أيضا مع مطلع العام 1963 يصل الصادق النيهوم موفدا من الجامعة الليبية معيدا في فقه اللغة العربية ويشرع في دراسته العليا بمعهد غوته. مشاكس ومتمرد آخر. من المؤكد أنه التقى التكبالي. ثمة صور بحوزتي لم تنشر حتى الآن تجمعهما في تلك الأيام. لكن الصداقة لم تتواصل. التكبالي لم ينشر شيئا. النيهوم ما زال يتلمس طريقه وموهبته. التكبالي سيتقاطع أيضا مع القذافي والنيهوم سيلتقي بالملازم بعد التغيير الذي كان مغرما بموهبته ويحاول تقليده. ثم سيتقاطع معه أيضا رغم العديد من الأقاويل وتهم إنجاز النظرية والكتاب الأخضر. فصول تتقاطع ولا تتوقف لكنها تنطفئ وتنحدر وراء الأفق عند حواف التاريخ المجهول أيضا. يصل آخرون للدراسة في ألمانيا.. جيل يتواصل مع جيل.. أحمد الماقني وأحمد اعبيده وسالم ضو بونعامة وفتحي الكبتي وعلي الروكلي…. وكثيرون. تنوعت التخصصات. طال البقاء بالبعض وعاد غيرهم ولم يكمل دراسته. كان الليبيون في الغالب معجبين بالألمان ويضربون بهم المثل في الشجاعة. اقتربوا منهم أيام الحرب التي مضت وخبروهم وأدركوا أنهم من نواحٍ كثيرة أفضل من الطليان الذين تميزوا في لحظاتهم الأخيرة بالجبن والفرار.
غراسياني نفسه ظل يتنقل من الخوف من مغارة إلى مغارة في تلال شحات خوفا من مطاردة الحلفاء الذين أمسكوا به في خاتمة المطاف. حكايات الليبيين عن رومل على سبيل المثال وغيره من الضباط والجنود تختلف فوق الشفاه وعند سرد الروايات والأخبار.
.. فماذا تقول المويجات الولهى!؟