تكرار الجماعات في مختبرات الحكم

تكرار الجماعات في مختبرات الحكم

في لحظة مفارقة من تاريخ المنطقة اكتظت شوارع عربية بالمحتجين، والحلم واحد، هو اللحاق بالعالم عبر مواثيق دستورية جديدة تجعل الناخبين مصدر الشرعية، والتداولَ للسلطة سلمياً، والفصل بين السلطات ركيزة هذا الميثاق. وكلها قيم تتعلق بالكرامة والحرية اللتين كانتا شعار هذا التمرد الضروري.

هذه هي المطالب المشتركة لتلك الشوارع التي نادت بأشكال ومستويات مختلفة بسقوط النظم التقليدية، بدايةً من تونس مرورًا بمصر واليمن وسوريا وليبيا، لتطال شظاياها المتطايرة نظما أخرى تحوطت للأمر عبر إصلاحات ذاتية، وكل تجربة احتجاج أو لإصلاح أفضت إلى نتائج مختلفة.

ويظل السؤال: لماذا تترنح هذه الأهداف التي استيقظت في الشارع العربي مع جيل انفتح على العالم وتحرر من خرافة (ليس بالإمكان أبدع مما كان)؟ ولماذا في كل ثورة أو احتجاج تُسرق أحلام الناس ورغباتهم؟ ومن يسرقها؟ ولماذا كل مرة يعود إلى الواجهة أكلة أحلام الناس ولحومهم؟

في رواية «حفلة التيس» شبه التوثيقية، للبيروفي ماريو باراغاس يوسا، يستدعي واقعة تقطيع رجال مخابرات طاغية الدومينيكان، تروخيو، لأحد معارضيه، غير أن التشفّي لم يقف عند هذا الحد، بل اعتُقِل والد المعارض، وجُوّع لأيام عدّة، ثم أحضروا له وجبة دسمة من اللحم، وبعد أن تناولها أخبروه أن ما تناوله لحم ابنه المعارض، في إشارة إلى أن هذا النوع من الطغيان ينتمي في حقيقته لزمن آكلة لحوم البشر، ومع سقوط نظام الأسد (غير الاستثنائي والشبيه بنظم عربية عديدة) تكشفت الكثير من الأسرار التي يندى لها الجبين، وفي عتمة السجون كان أكلة لحوم البشر يثابرون كي تبقى هذه النظم غير الشرعية في السلطة.

ما يجعل منظومات الحكم التقليدي تصفّي معارضيها؛ هو إصابتها بوسواس قهري ناجم عن شعور دفين بأنّها تحتل مجالاً سياسياً دون وجه حق، أو ما يمكن اختصاره بإحساسها العميق بفقدان الشرعية، مهما حاولت أن تستجدي شرعياتها المزيفة من السماء أو التاريخ، أو القوة، أو المشروعية، أو الانقلابات التي سمتها ثورات، أو قدرتها على توفير الأمن والقوت للقطيع الذي تملكه، ولأن لحم أكتاف الرعية هبة من الحكام، فهم لا يتورّعون عن تقطيعه، أو وضعه في ثلاجات لسنوات طويلة، إذا ما خالف صاحب هذا اللحم رأي السلطة أو انتقدها، وهذه العلاقة بلحم الرعية تعيدنا إلى زمن آكلي لحم البشر، دون الحاجة إلى استعارة أو مجاز أو تورية.

كانت شرعية الحكام العتيدين تتأتّى من مصادر غيبيّة بتفويض النخبة القريبة للحاكم؛ التي تتحوّل تلقائياً إلى حاشيته، عبر ما يسمّى المبايعة التي عادة ما تديرها المؤسسة الدينية في حلفها التقليدي مع السلطة السياسية الحاكمة، أو عبر الغلبة بالقوة التي غالباً ما تمر عبر بحر من الدماء، وأيضاً تبارك السلطة الدينية هذه الغلبة تحت شعار أن الحاكم قدر إلهي من الكفر معارضته، أو أن الحاكم ولي أمر تجب طاعته، بصرف النظر عن الطريقة التي وصل بها إلى السلطة، أو عمّا يقترفه من جرائم تجاه رعيته لأنها جرائم تقع تحت بند العقاب الإلهي للرعية الضالّة، في حوار أجرته قناة الحدث الليبية مع أحد شيوخ السلفية الزائر، كان يؤكد على أن طاعة ولي الأمر من طاعة الله، فسأله المحاور: وهل المقصود بولي الأمر من جاء إلى السلطة عن طريق الانتخابات؟. فقال دون وجل: «حتى ولو جاء عن طريق سفك الدماء».

مع الترقّي الإنساني، وفتوحات العقل البشري في العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية؛ انحسرت هذه الشعوذة السياسية التي استسلم لها لفترة طويلة عقل شعبي موقن بذاك المنبع الخرافي للسلطة، الذي يتطلب منه نوعاً من العبادة والورع، وبدأت المجتمعات عبر نخبها تسعى إلى نظم حكم جديدة عبر إعطاء الشرعية للسلطة من قبل الناس(الناخبين)، الذين يشكّلون الطرف الأقوى في المعادلة. النظام الشرعي هو النظام السياسي الذي يصل إلى السلطة عبر رغبة الناس التي يعبر عنها بالاستفتاء، أو بالانتخابات الحرة النزيهة، والنظام الشرعي وفق هذه الإرادة الشعبية؛ يجب أن يكون حكمه مؤقتاً ومحدداً بسقف زمني، وعرضةً للنقد والمساءلة من سلطة قضائية مستقلة وفق دعم دستوري يوزع السلطات بشكل متوازن، والأهم أن من لم ينتخب الرئيس سيتحول إلى صف المعارضة المشاركة في الحكم عبر نقدها وضغطها على السلطة القائمة.

الغريب أن كل منظومات التسلط المغتصِب لحق الناس في الاختيار، التي انتهت نهاية مأساوية، سواء كانت إمبراطورية أو ملكية أو إقطاعية أو جمهورية، انتهت وتحت أقدامها مقابر جماعية من ضحاياها، من أصحاب الرأي المخالف أو المعارضين الذين صفّتهم من أجل أن تبقى، فكل حكم غير شرعي لا يتوقّف عن سحق معارضيه رغم إدراكهِ بأنّه ذاهب في كل الأحوال إلى نهاياته المأساوية.

فتك هتلر بكل من يعارضه، أو يهمس بنقده في عشاء عائلي، وانتهى منتحراً هو وزوجته وكلبته المدللة، تاركاً خلفه مقابر جماعية تحوي عظام كل من عارضوه، أو حتى أسدوا له النصح. والشعب؛ الذي طالما تحدّث باسمه، علّق موسوليني من أقدامه، بعد عقود من تصفية مخالفيه، والفتك بكل رأي ناقد. اختبأ صدام الذي صفّى كل معارضيه، حتى من أقاربه وأصدقائه وأصهاره في حفرةٍ بعد أن أسقطَ شعبُه تماثيلَه الكلسية المنتصبة في ميادين العراق، وسقط في حفرة إلى ثقب عميق في التاريخ.

في ماسورة تصريف المياه بمسقط رأسه؛ انتهى القذافي الذي كم لاحَق معارضيه ومنتقديه في كل أصقاع العالم، وأعدم وصفى وذبح وسجن وخطف كل من طالته يد آلته البشرية المتوحشة «اللجان الثورية». والكل يعرف مصير تشاوسيسكو الروماني، وبشار الأسد، والتاريخ زاخر بهذه النماذج التي دفعت ثمن طغيانها غالياً.

وبعض هذه النهايات أفضت إلى أحلام الثورات أو بعض منها، وبعضها كان البديل فيها أسوأ من السيء قبله، والمحك دائما في النضج الاجتماعي وجاهزية بيئته للتغير وتربية الأحلام وتحقيق الأهداف، وترنحت دول الربيع العربي ببدائل شربت هي نفسها حليب الطغاة السابق، أو كما يقال سرقت هذه الثورات وأخمدت أحلامها لأن الهدف وللأسف كان فقط إسقاط النظام ثم إهدار الوقت في التشفي منه، ما جعل هذه الثورات تمكث في الماضي وغير قادرة على النسيان، والإقامة في الماضي تعني بعث كل ما يحتويه هذا الماضي، وإعادة تدوير تلك الفاشيات المنتهية بفاشيات أخرى ما زالت تتعلم أبجديات القمع وترتكبه بحماقات من ما زال يتعلم، وما حدث في النهاية هو نوع من خصخصة القمع وتوزيعه بدل احتكاره من شخص آخر، بينما الشعوب المصدومة التي خرجت إلى الميادين في لحظة يقظة عادت من جديد إلى الحنين إلى النظم السابقة بحجة الاستقرار والأمن، وحتى وإن كان أمناً مصدره الخوف.

والسؤال: لماذا يستمر ورثة تلك الأنظمة في تقنية العنف نفسها رغم أنهم يدركون مصائر من سبقهم. ربما لأنهم يجيئون من جاذبية الخرافة وليس من سرد التاريخ، حيث العبرة مرتبطة بالإحساس بقسوة التاريخ، غير أنه في جميع الأحوال، الإحساس العميق بفقدان الشرعية هو ما يؤدي إلى هذا السعار، وإلى هذا التكرار، مثلما يفعل الخاطفون أو القتلة المتسلسلون.

والطبقات السياسية التي ركبت على ظهر الربيع العربي؛ تُعيد إنتاج هذا التراث، والفارق أنها بدأت تدرك أن الشرعية لم تعد محلية، وكل الطبقات السياسية العربية، تتصارع على الشرعية التي توهب لها من الخارج، وكل حكومة تسمى حكومة توافق وطني هي في الواقع حكومة توافق دولي، وهذا ما حدث ويحدث في ليبيا، حيث كل جسيم يسعى للاعتراف الدولي ليتباهى به، حتى وإن كان يعيث خراباً وفساداً في الداخل، مثلما النظام السوري الجديد يتباهى بزواره من الخارج وبالاعترافات وببعض مديح الداعمين له مع أن الداخل كله على حافة الهاوية، وهو ليس معنيا بالاعتراف الداخلي من كل مكونات السوريين بل بتسول اعتراف القوى الخارجية به، لأنه إذا حدث ذلك سيظل في السلطة ردحا من الزمن بغض النظر عن شرعيته أو كفاءته أو رضا الداخل عنه، وبهذا الشكل استمرت تلك النظم القمعية العربية عقوداً في السلطة رغم أنها فاشلة في كل شيء ما عدا خدمتها لمصالح تلك الدول النافذة، وباعتراف الخارج وتأليه الغوغاء لها كانت تبقى، أما الأقلية الناقدة فكانت تتكفل بها بطريقة أخرى كما قال هتلر.

وحين يتلاشى التمايز والاختلاف في المجتمعات المتنوعة، يُسهّل التشابه القطيعي وعبادة الأشخاص التلاعب بالجموع ويحولها إلى أدوات عمياء للقمع. إنه الكابوس الأكثر رعبا. في كتابه (في الوعي الأخلاقي والعلمي) يقتبس نجيب الحصادي عن جينا كولاتا ضمن تحليلها لتقنيات الاستنساخ ما يلي: «تستثير فكرة وجود بشر غير متمايزين اجتماعياً كوابيس مروعة.

أشرطة الحرب الوثائقية الأكثر إرعابا ليست تلك التي تعرض أجساد الناجين الهزيلة أو السحب الفطرية فوق هيروشيما وناغازاكي، بل جموع الألمان الرافعين قبضاتهم هاتفين بالنصر للنازية. الأكثر ترويعاً هو سيكولوجيا الرعاع التي تجعل من الأفراد مجرد نسخ متماثلة، لا ترتاب فيما تقوم به السلطة وليست لديها آراء مستقلة. إنه مرتبط بخوفنا من الجماعات التي يسهل التلاعب بها ويمكن أن تصبح جموعا عاطلة عن التفكير وأن تُسخَّر أداةً للقمع». والأكثر إرعاباً الآن هي قطعان اليمين التي تتفشى في عالم النعجة دولّي المستنسخة، وهؤلاء الشعبيون الذين يستثمرون في سيكولوجيا الرعاع ومكابيتهم العنيفة.