الزمان والمكان في الثقافة الليبية

الزمان والمكان في الثقافة الليبية

الزمن في المجتمعات البدوية هو فقط تعاقب الليل والنهار، ويقسم الزمن في هذه المجتمعات إلى وحدات أصغر، مثل الشروق البكور الغدوة الضحى الهاجرة الظهيرة الرواح العصر القصر الأصيل العشى والغروب، أما الليل فيقسم إلى الشفق الغسق العتمة السدفة الفحمة الزلة الزلفة البهرة السحر الفجر والصبح، ونستنج من هذا أنهم اعتمدوا على دورة الشمس والقمر، وفي العام 814 ميلادياً أهدى هارون الرشيد شارلمان ساعة معقدة، وبعد أكثر من قرن صنع الفلكي والرياضي أبوالحسن بن يونس المصري أول ساعة برقاص.
وفي القرن الخامس الهجري صنع العرب الساعة المائية، ولكن عندما ولدت في قريتي في آخر خمسينيات القرن العشرين، لم يكن أحد من سكانها يحمل ساعة في معصمه، أو ساعة حائطية في بيته، بمن في ذلك المؤذن والإمام وشيخ القرية، وحكى لي خالي الذي كان فقيه القرية خلفاً لوالده، أنهم مرة في رمضان كانوا يجلسون أمام الجامع في انتظار الغروب، وجاءت سحابة فحجبت الشمس وبعد برهة، أخذ يستعجله الناس برفع الأذان وهو يتمهل، حتى أظلمت الدنيا فطلب من المؤذن رفعه، وأثناء الأذان اختفت السحابة وأشرقت الشمس من جديد، فطلب من المؤذن التوقف. هذا مثال على ما كان عليه المسلمون في بغداد ودمشق والقاهرة في العصور الوسطى، وما صاروا عليه في قريتي في القرن العشرين.
أحد أقاربي ذهب إلى طرابلس وقبل في الجيش، وعندما سألوه عن تاريخ ميلاده فكر قليلا، ثم قال ولدت في نفس الليلة التي ولدت فيها امباركة بنت البصير، وعاش قريب آخر حوالي 115 سنة بصحة جيدة وذاكرة حديدية، وفي أيامه الأخيرة كنت أزوره بانتظام، أجلس أمامه مستمعاً ومستفسراً، بينما يسرد من وقائع شهدها خلال عمره الطويل دون تحديد الزمن، فأسأله كم سنة حدث ذلك بعد دخول الطليان، فيجيبني متأففا «ما زال ما خشوش»، وأقدر أنه كان في العشرين من عمره، لأنه كان متزوجاً من زوجته الأولى التي لا يعرف أحد من هي بالتحديد فقد توفيت مبكراً وهي شابة، فتزوج بعدها عدة مرات وأخيراً تزوج من زوجته الأخيرة، التي كانت في عمر أمي وتصغره بأكثر من ستين عاماً. لا أدري تحديداً هل عاش فعلا 115 سنة أم أكثر أم أقل، فهذا ما وجدناه في السجل المدني الذي تأسس بعد الاستقلال، وربما يعود السر في عمره الطويل إلى أسلوبه في التغذية، فقد كان نباتياً معظم العام ولا يلتقي باللحم إلا في المناسبات، ويكتفي بقية العام بما تحتفظ به زوجته من شرائح القديد، فكان يأكل كل يوم خبز الشعير المخبوز في التنور، ويأكل البازين الذي يسميه العيش وهو أيضا من دقيق الشعير، ويشرب اللبن الرائب ويأكل شيئاً من التين المجفف والتمر على سبيل التحلية، ويفطر الزميتة والبسيسة والبيض العضوي من دجاجاته التي ترعى في الزبالة، وألحت عليه زوجته أن يشترى لها تلفزيون بعد أن دخل إلى كل بيت، وهو يرفض بشدة مكتفياً براديو قديم كان يستمع إليه وهو مستلقٍ تحت زيتونة عملاقة أمام بيته، الذي يتكون من غرفتين إحداهما مطبخ، والثانية للنوم وللمعيشة، وبعد ضغوط من الجيران والأقارب وافق على دخول التلفزيون إلى غرفته، فكان يفتحه كلما اقترب الأذان وبعد الأذان يغلقه، وهو يقول «هو صنعوه باش نسمعوا الأذان وهو سمعناه».
في هذا المجتمع الذي يعتمد على نمط الزراعة البعلية وتربية الماشية الصغيرة يتحول الزمن إلى سائل ثقيل القوام، لا يحتفظ إلا بالسنوات التي حدثت فها وقائع كبيرة، مثل عام الفارينة وعام الجرامات وعام الطاعون وعام التل وعام الطليان وعام الحبش وعام الأسرى وعام الهجة، أما بقية الأعوام فهي متشابهة بحيث لا تستحق التمييز، كما أن المسافات غير محددة فإذا قال لك أحدهم إن ذلك المكان يبعد خطوتين، فاستعد لقطع عدة كيلومترات، ولهذا يقول المثل «نعتة العربي بشواربه»، والعربي هنا يقصدون به الأعرابي أو البدوي، وهذا ما وجدنا عليه الشعر الجاهلي، يقول امرؤ القيس في معلقته «قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزِلِ بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُول فَحَوْمل».

فعجز البيت أسماء لأماكن قريبة من منزل الحبيب الذي لم يبق منه إلا الأطلال، وإذا عدنا إلى المكان اليوم فسنجده مكاناً واسعاً يتسع لبناء مدينة، بينما يقول النابغة الذبياني «يا دار مية في العلياء والسند، أقوت وطال عليها سالف الأبد»، وهنا يجمع النابغة بين المكان والزمان دون تحديد دقيق لكليهما. يقف البدوي في المكان ليس ليبكي على الأطلال فقط، وإنما ليرثي نفسه وما فعله به الدهر، على خلاف وقوف الشاعر العباسي في المكان. يقول أبونواس «وما لذة العيش إلا شرب صافية، في بيت خمارة أو ظل بستان»، وهنا يصبح المكان أكثر تحديداً وأصغر مساحة، ويقول أيضا «ما مررنا بدار زينب إلا، فضح الدمع سرنا المكتوما، ذكرتني الهوى وهن رميم، كيف لو لم يكن صرن رميما»، فالمكان هو الذي يتحدث وليس الشاعر، ويقول أبو العتاهية عن الزمان «سَكَنٌ يَبقى لَهُ سَكَنُ
ما بِهَذا يُؤذِنُ الزَمَنُ
نَحنُ في دارٍ يُخَبِّرُنا
عَن بِلاها ناطِقٌ لَسِنُ
دارُ سَوءٍ لَم يَدُم فَرَحٌ
لِامرِئٍ فيها وَلا حَزَنُ
كلُّ حَيٍّ عِندَ ميتته
حظه من ماله الكفن».
ما الفرق بين شعر الجاهليين وشعر أبي نواس وأبي العتاهية؟ هو الفرق بين البادية والمدينة، أو الفرق بين أنماط الإنتاج في المكانين، وهو نفس الفرق بين طرابلس وقريتي، حيث افتتح عام 1870 برج الساعة في المدينة القديمة، في عهد الوالي التركي علي رضا باشا، في ذلك الوقت لم تكن هناك ساعة واحدة في قريتي، بينما كانت موجودة في عهد هارون الرشيد، فمتى تتحرك الساعة في ربوعنا وهي لم تتحرك على الإطلاق، على الرغم من أن الجميع ينظر إلى ساعة هاتفه المحمول على الأقل عدة مرات في اليوم، ومع ذلك لا يحدد الزمن بالساعة والدقيقة، وإنما يتم الاتفاق على اللقاء بعد العصر أو قبل المغرب.