(قوفتو).. حكاية تستحق أن تُروى بعناية

في الوقت الذي تتجه فيه أنظار العالم وقلوبه نحو قطاع غزة، وتشتعل منصات الأخبار والمنصات الحقوقية بنار باردة تحكي عن الجوع والعطش في القطاع، تبرز قصة لا ينبغي أن تكون عابرة؛ لأن الإنسانية، في جوهرها، لها وجه واحد يواجه الحقيقة كما هي.
«قوفتو» شابة إثيوبية هاجرت إلى ليبيا بحثا عن حياة جديدة، لكن رحلتها من أديس أبابا إلى طرابلس انتزعت منها براءتها. نهشتها ضباع الصحراء، وأُهين جسدها، بينما لم تكن ترى أمامها إلا البحر، وقاربا متهالكا قد يوصلها إلى حياة جديدة… أو إلى موت يخلّصها من القديمة.
استقرّت «قوفتو» في طرابلس بعد فشل محاولاتها المتكررة للهروب نحو أوروبا. وكلما ضاقت بها الدنيا، اتسعت بطنها، تعيقها عن العمل في البيوت، وعن كسب فتات العيش. كانت تقف يوميا أمام المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في طرابلس، ترفع عينيها إلى السماء، تعدّ ساعات عمرها التي بلغت تسعة عشر عاما، وعمر جنينها الذي قارب أن يبدأ.
وفي كل يوم كانت تعود بخيبة جديدة، حتى بدأت آلام المخاض تتصاعد، وبدأت معها رحلة البحث عن مستشفى يخفف عنها وعن جنينها هذا الثقل الإنساني.
في 21 يوليو 2025، تجاوز الألم حدود الاحتمال، فلجأت إلى صديقتها علّها تساعدها في الدخول إلى مستشفى في طرابلس. وحين وصلت إلى الباب، وجدت وجوها يعلوها التعجب، والخوف، والرفض… الوجوه ذاتها التي تبكي بحرقة على أطفال غزة!
مفارقة موجعة: امرأة تحمل جنينها أمام مستشفى، تطلب المساعدة من أجل حياة لم تولد بعد. أليست هي صورة أخرى من صور غزة الجريحة؟ أليس جنينها روح غزة المظلومة التي تبحث عن السلام والنجاة؟
قُوبلت «قوفتو» بالرفض أمام قسم الإسعاف، وآلامها تتصاعد، ودماؤها تختلط برمال الطريق. رفعت عينيها للسماء كعادتها، كأنها تسمع نداء من عالم آخر. وفي تلك اللحظة، صاحت صديقتها بصوت عالٍ: «لنذهب إلى مستشفى آخر!»، فانطلقتا من جديد، لا في سيارة إسعاف، بل في سيارة أجرة، بينما كان صوت آخر يناديها… صوت العدل الإلهي.
توفيت «قوفتو» وجنينها قبل أن يصلا إلى المستشفى الآخر. غادرت بابتسامة شكر وعرفان لربّ السماء، الذي استقبلها حين رفضها أهل الأرض.
في لحظات قراءتي لقصة «قوفتو»، شعرت أنني أسمع صوتها في أذني، تروي حكايتها لي وحدي، لأشهد أنا، ويشهد المدقق اللغوي، والناشر، والقارئ، أن «قوفتو» وجنينها ليسا سوى قصة واحدة من ملايين القصص لمهاجرين، أخجل أن أصفهم بـ«غير نظاميين» أو «سريين»… لأنهم، ببساطة، مهاجرون من جهنم إلى الدرك الأسفل.