غزة: سمات الإنسان المتضور جوعاً!

ليست المجاعة في غزة حادثة عابرة في مسار حروب متلاحقة ولا هي نتيجة جانبية لظرف استثنائي إنها، باختصار، الوجه العاري لعصر مدعي الحضارة، اللحظة التي يسقط فيها القناع عن فكرة الإنسانية حين تصطدم بجدار السياسة ويصمت كل شيء أمام جوع طفل واحد، جوع نقي لا علاقة له بالموقف أو الدين أو الهوية.
في غزة لا أحد يتحدث عن الجوع بوصفه مجازاً. هناك أصبح الجوع هو الواقع لا اسم له ولا ملامح لكنه حاضر في كل شيء في نظرات الأمهات في صمت الطفولة في الملاعق الفارغة في انتظار لا ينتهي هناك لم تعد الحياة مسألة بقاء؛ بل مسألة تفسير لماذا يموت الناس جوعاً كيف يمكن للعالم أن يرى كل هذا ولا يتحرك كيف تحول التجويع إلى سياسة علنية لا تحتاج إلى تبرير.
الجوع في غزة ليس جوع خبز فحسب بل جوع معنى جوع كرامة جوع لأبسط ما يُفترض أنه حق أن تأكل لتعيش وهذا الجوع لا ينبع من شحّ في الطبيعة ولا من كارثة طبيعية؛ بل من قرار بشري بامتياز أن يُمنع شعب كامل من امتلاك حاجته اليومية أن يُحاصر أن يُراقب في فمه وأن يُعاقب بجوعه لأنه لم يستسلم.
من يراقب المشهد عن كثب لا يحتاج إلى بيانات رسمية ليكتشف أن ما يحدث في غزة هو تنفيذ مقصود لاستراتيجية باردة جافة تجعل من الغذاء أداة حرب لم يعد التجويع يُمارَس خفية؛ بل بات جزءاً من خطاب واضح لا طعام لا دواء لا خروج لا نجاة، كل من بقي داخل القطاع لا ينتظر الهدنة بل ينتظر وجبة لا يدري من أين تأتي ولا إلى متى ستكفي.
العقاب بالجوع ليس جديداً في الحروب لكنه هنا يُنفَّذ بأسلوب عصري دقيق بلا جلبة. فالغذاء لا يُقصَف بل يُمنع، الطريق إلى الخبز يُغلق الحليب لا يُمنع بصراحة؛ بل لا يُسمَح له بالعبور، الصيدليات خاوية لكنها لم تُنهب بل لم يُسمح لها بالتوريد وهكذا يتحوّل الحصار إلى ما يشبه الهندسة المعمارية للجوع بناء معقّدا من الحرمان يختنق الناس داخله يوماً بعد يوم دون أن يجدوا مخرجاً.
الموت بالجوع ليس موتاً سريعاً إنه عملية هدم بطيئة للكرامة كل يوم يمرّ يُنتزع جزء من الإنسان، روحه صوته، ثقته بنفسه، نظرته إلى العالم. الجوع لا يقتل فقط؛ بل يُذل يُحني الظهر يُطفئ الحلم يُعيد الإنسان إلى نقطة الصفر.
في غزة هناك أمهات يكتفين بمضغ الخبز اليابس أمام أطفالهن ليوهموهم أن هناك شيئاً يؤكل، هناك آباء يفتشون عن أوراق الشجر أو بقايا الطعام في القمامة دون أن ينظر إليهم أحد، هناك نساء حوامل لا يعرفن إن كنّ سيعشن إلى لحظة الولادة، هناك شيوخ لا يتحدثون لأن الجوع إذا طال ألغى الحاجة للكلام.
هل هذا مشهد إنساني هل يمرّ دون مساءلة؟ من الذي قرّر أن يصبح الإنسان الفلسطيني مادة قابلة للتجويع للتعليق على الشاشات وللتجاهل في المؤتمرات؟
العالم يعرف، لا حاجة إلى من يخبره، لا أحد يجهل ما يجري، غزة ليست في العصور الوسطى بل في قلب عالم رقمي تُنقل فيه كل صورة في اللحظة ذاتها الجائعون يُرَون بالصوت والصورة، جوعهم يُبَثّ عبر الأقمار الصناعية، ومع ذلك لا يتحرّك شيء.
والأخطر أن هذا الجوع أصبح مألوفاً لم يعد صادماً بما يكفي ليُحدث فرقاً صار جزءاً من الاعتياد الإخباري من المشهد المتكرر الذي لا يزعج أحداً. المجاعة التي كان العالم قبل عقود يهبّ لمواجهتها باتت اليوم شأناً محلياً لا يستحق أكثر من تعاطف سريع أو تغريدة عاجلة.
وهنا تبرز الفضيحة الأخلاقية الأكبر حين يُصبح الجوع أداة سياسية مشروعة في يد قوة عسكرية ويصمت العالم لأن من يتعرّض له لا يملك حصة في موازين القوى ولا صوتاً مسموعاً في دهاليز القرار.
لكن وسط كل هذا السواد يظلّ هناك شيء يتجاوز الجوع ذاته، الإنسان الفلسطيني الذي رغم كل شيء لا يزال واقفاً، ليس لأن معدته ممتلئة بل لأن روحه لم تُكسر. هذا الإنسان الذي اعتاد أن يعيش على القليل لا يفعل ذلك لأنه يريد بل لأنه حُرم مما يستحق ورغم ذلك لا يساوم على وجوده.
أن تكون فلسطينياً في غزة اليوم معناه أن تستيقظ كل يوم وأنت لا تعرف كيف ستمرّ بقية ساعاتك أن تمشي في الطرقات وتعرف أن الموت قد يأتي من السماء أو من نقص الملح. أن تضع أطفالك للنوم وأنت لا تملك حليباً ولا حتى ماء نظيفاً ومع ذلك أن تستمرّ أن تُبقي على شيء من الكرامة وأن ترفض أن تصبح مجرد رقم في تقرير أممي.
ربما لا ينبغي أن نسأل كثيراً عن الدول والحكومات فقد اعتدنا على خذلانها وعلى موازينها المنحازة وعلى بياناتها المبتذلة. السؤال الأهم اليوم هو أين الإنسان فينا أين ذاك الجزء من ضمير العالم الذي كان يهتزّ لصورة جائع ويبكي لطفل يبكي لماذا لم تعد المجاعة تهزنا كما كانت هل ماتت مشاعرنا تدريجياً أم أننا قتلناها تواطؤاً مع العادة
في كل يوم يمرّ يُفترض أن نكتب أسماءنا على قائمة المتواطئين بالصمت لأننا رأينا وسكتنا لأننا سمعنا ولم نفعل شيئاً لأننا اخترنا الراحة في حضن العجز بدلًا من أن نقف ولو بكلمة.
ما يجري في غزة لا يُختَصر في مجاعة بل هو اختبار مفتوح لكل ما نؤمن به، اختبار للعدل للكرامة للإنسان وللمعنى ذاته هل يظلّ الإنسان إنساناً إذا قَبِل أن يرى غيره يموت جوعاً ولا يتحرك هل تبقى الإنسانية فكرة لها قيمة إن لم تُطبَّق حيث يكون الألم أقسى.
غزة اليوم مرآة ليس فقط لمن يجوع فيها بل لنا جميعاً مرآة تُظهر لنا حقيقتنا كما هي، لسنا أبرياء ولا خارجين عن اللعبة حتى حين نصمت نحن طرف حتى حين نغضّ البصر نحن شهود ولا شيء أسوأ من أن تكون شاهدًا على المجاعة ولا تفعل شيئا.