البراغماتية والإخوان: خطوة نحو القبول أم زلة انحراف؟

«عندما تصبح براغماتيًا، سوف تكون مقبولًا بدرجة الامتياز عند الإخوان المسلمين».. تبدو هذه العبارة، للوهلة الأولى، كأنها حقيقة بديهية، مفتاح لفهم سلوك واحدة من أكثر الحركات السياسية تأثيرا وجدلا في العالم العربي. لكنها في جوهرها تحمل تناقضًا عميقًا يكشف عن طبيعة العلاقة المعقدة بين الأيديولوجيا الصلبة والواقعية السياسية المرنة داخل الجماعة. فهل البراغماتية حقًا هي تذكرة العبور إلى مراتب التقدير داخل التنظيم، أم أنها خط أحمر قد يؤدي بصاحبه إلى التهميش والعزلة؟
من ناحية، يبدو التاريخ الحديث لجماعة الإخوان المسلمين وكأنه درس متقن في البراغماتية السياسية، فالجماعة التي تأسست على رؤية شمولية، تهدف إلى إعادة تشكيل المجتمع والدولة وفقًا لمنظورها الإسلامي، أظهرت قدرة فذة على التكيف مع واقع سياسي لا يخدم رؤيتها النهائية. يتجلى هذا النهج البراغماتي بوضوح في قرارها التاريخي الانخراط في النظم السياسية العلمانية، وخوض الانتخابات البرلمانية، والمشاركة في حكومات لا تتبنى مشروعها بالكامل. كانت هذه قرارات تكتيكية بامتياز، تهدف إلى تحقيق مكاسب جزئية على الأرض، وتوسيع النفوذ، وتجنب الصدام المباشر مع السلطات القائمة.
لم تقتصر براغماتيتهم على المشاركة السياسية فحسب، بل امتدت لتشمل بناء تحالفات متغيرة مع خصومهم الأيديولوجيين، حيث تحالف الإخوان في محطات مختلفة مع قوى ليبرالية ويسارية وقومية، لمواجهة عدو مشترك، عادة ما يكون النظام الحاكم. هذه التحالفات لم تكن مبنية على قناعات فكرية مشتركة، بل على حسابات دقيقة للمصلحة السياسية الآنية. إن الشخص القادر على إدارة هذه التحالفات المعقدة، وتقديم خطاب مرن يقبله الآخرون، هو بالفعل شخصية ذات قيمة كبيرة للجماعة، مهندس سياسي يستطيع بناء الجسور التي يعبر عليها التنظيم نحو أهدافه.
ولكن هذه الصورة ليست كاملة، فالقبول «بدرجة الامتياز» داخل جماعة الإخوان لا يعتمد على المهارة البراغماتية وحدها. هناك شرط أساسي يسبق أي مهارة أخرى: الولاء المطلق للتنظيم ومرجعيته الأيديولوجية. البراغماتية عند الإخوان هي أداة وظيفية، وليست فلسفة وجودية. إنها وسيلة تكتيكية لخدمة هدف استراتيجي أكبر وأكثر قدسية، وهو تطبيق رؤية الجماعة الشاملة.
وهنا يكمن جوهر الإشكالية. البراغماتية الحقيقية تقتضي أحيانًا أن يتفوق الواقع على المبدأ، وأن يتم التنازل عن بعض الأهداف من أجل تحقيق استقرار أو مصلحة أوسع. هذا النوع من البراغماتية مرفوض تمامًا داخل الإخوان. أي مرونة تتجاوز «الخطوط الحمراء» العقائدية، أو تهدد الهدف النهائي للجماعة، لا يُنظر إليها كمهارة سياسية، بل كـ«انحراف وتمييع للمبادئ». تاريخ الجماعة نفسه شاهد على صراعات داخلية حادة بين تيار يوصف بـ«الإصلاحي» أو «البراغماتي» وتيار «قطبي» أو «محافظ»، حيث يتهم كل طرف الآخر إما بالجمود أو التفريط.
إذًا، الشخصية التي تحظى بالقبول والامتياز ليست البراغماتية بالمطلق، بل هي شخصية تمتلك ما يمكن تسميته «البراغماتية المشروطة». هو الشخص الذي يتقن فن المناورة والتكيف، لكنه يعرف تمامًا متى يتوقف، وأين تبدأ الثوابت التي لا يمكن المساس بها. إنه الشخص الذي يستخدم المرونة سلاحا لخدمة العقيدة، وليس بديلا عنها. الولاء للتنظيم وقيادته يظل هو المعيار الأول والأخير، والبراغماتية تأتي بعده كأداة تنفيذية. يمكن أن تكون سياسيًا بارعًا، ولكن إذا شك التنظيم في ولائك أو اعتبر أن براغماتيتك قد أصبحت غاية في حد ذاتها، فسيتم تهميشك بسرعة.
في نهاية المطاف، تكشف العبارة عن مفارقة دقيقة: الإخوان المسلمون يحتاجون إلى البراغماتيين للبقاء والنمو في عالم السياسة المعقد، لكنهم يخشونهم في الوقت نفسه، لأن «البراغماتية المطلقة» تهدد بتآكل الأساس الأيديولوجي الذي تقوم عليه الجماعة. القبول «بدرجة الامتياز» لا يُمنح لمن يضع الواقع فوق كل اعتبار، بل لمن يثبت قدرته على تطويع الواقع لخدمة المبدأ، والسير ببراعة على ذلك الخيط الرفيع الذي يفصل بين المرونة التكتيكية والخيانة الأيديولوجية.